جدل حول تمثال مجدي يعقوب
عربي
منذ 4 ساعات
مشاركة

في الأيام القليلة الماضية، عاد النقاش إلى الواجهة مع الإعلان عن إنجاز منحوتة جديدة تخلّد مسيرة الطبيب وجراح القلب المصري مجدي يعقوب. جاء الإعلان في احتفالية رسمية أقامتها وزارة الثقافة، بحضور عدد من الشخصيات العامة، وأُعلن خلالها أن النحات المكلّف بتنفيذ التمثال هو الفنان والأكاديمي عصام درويش، أستاذ النحت في كلية التربية الفنية. ووفقاً لما صرّح به المسؤولون، سيُقام التمثال في ميدان الكيت كات، بالقرب من معهد القلب في العاصمة المصرية، في موقع يحمل دلالة رمزية واضحة.

ورغم ما حمله الإعلان من إشادات رسمية واحتفاء بالقيمة الرمزية للعمل، فإن فكرة التكليف المباشر للفنان أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط الفنية والثقافية. فقد أعاد هذا القرار إلى الأذهان نقاشاً متجدّداً حول آليات تكليف الفنانين لتنفيذ الأعمال العامة، وجدوى هذا الأسلوب مقارنة بفكرة المسابقات المفتوحة التي تتيح فرصًا متكافئة لمختلف الفنانين.

كان من أبرز الأصوات المنتقدة لتلك الآلية الفنان ناثان دوس، الذي كان قد صمّم بالفعل، وعلى نفقته الخاصة، نموذجاً لتمثال يُعبّر عن شخصية الدكتور يعقوب، لكي يُوضع أمام المستشفى الذي يحمل اسمه في أسوان. وأعرب دوس وفنانون آخرون عن دهشتهم من تجاهل هذا العمل، وعدم النظر إليه بوصفه مشروعاً قائماً يمكن البناء عليه. كما رأى البعض أن تكريم شخصية وطنية مثل يعقوب كان يستحق إطلاق مسابقة وطنية أو دعوة عامة يشارك فيها النحاتون المصريون، حتى يتبارى الفنانون في تقديم أفضل تصوّر لهذا العمل.

جدل يعبّر عن الهوة بين الرؤية الفنية وتوقعات المسؤولين

يكشف هذا الجدل الدائر حول تمثال مجدي يعقوب عن تلك الهوة الواسعة بين الرؤية الفنية الحرة وتوقّعات المسؤولين التنفيذيين، وهي فجوة تجلّت بوضوح في التجربة التي رواها الفنان ناثان دوس. فقد أشار دوس إلى أن تمثاله الذي نفّذه للدكتور مجدي يعقوب جاء بناءً على تكليف شفهي من محافظ أسوان السابق ووزيرة الثقافة السابقة إيناس عبد الدايم، وكان من المزمع وضعه في بهو مستشفى يعقوب للقلب في أسوان.

يحمل تمثال دوس رؤية فنية تحتفي بالشخصية المُكرّمة دون أن تقع في فخ المباشرة أو النمطية. فقد صاغ العمل عبر مجسّم حجري مفرّغ يحتضن بداخله قلباً بشرياً، ينبثق من أعلاه رأس الطبيب مجدي يعقوب، في إشارة بصرية ثرية تربط بين منجزه الطبي والإنساني وبين رمز القلب ذاته، بما يحمله من دلالات الحب والحياة والتفاني.

إنها معالجة تنطوي على فكرة وتدعونا إلى التأمل، وتُعبّر عن شخصية يعقوب لا بوصفه طبيباً فحسب، بل رمزاً للعلم والإنسانية في آنٍ واحد. لكن، بحسب ما يروي دوس، لم تجد هذه الرؤية صدى لدى المسؤولين. فعندما اطّلع المحافظ السابق على التمثال في شكله النهائي، أعرب عن عدم إعجابه بالفكرة، بل عبّر صراحة عن تصوّره لتمثال مختلف تماماً، تمثال تقليدي لطبيب يقف مرتدياً البالطو الأبيض، تتدلّى من عنقه السماعة الطبية.

غياب بيئة مؤسسية تُطرح المشروعات في سياق تنافسي شفاف

يكشف هذا الحوار الذي دار بين الفنان والمسؤول جانباً دقيقاً من أزمة العلاقة بين الإبداع الحر والتوقعات الإدارية. فهو يُعبّر عن ميل بعض المسؤولين إلى تفضيل المعالجات المباشرة والسطحية، تلك التي تعتمد الصورة النمطية الواضحة وتبتعد عن أي محاولة لتقديم عمل فني يحمل بصمة شخصية أو فكرة متجاوزة.

هذا الموقف ليس مجرد واقعة عابرة، بل يعكس إشكالية أعمق في إدارة المشروعات الفنية العامة. فبدلاً من منح الفنان الحرية لتقديم رؤيته، نجد أن ذائقة المسؤول التنفيذي قد تصبح هي المعيار، فيغدو العمل الفني أسيراً لتصوّرات فردية قد تفتقر إلى العمق أو الحس الفني. وهكذا، تضيع على المجتمع فرصة الحصول على أعمال نحتية تنطوي على اجتهاد فكري وجمالي، وتستقر في الميادين أعمال لا تُعبّر إلا عن الرغبة في الإرضاء اللحظي أو الامتثال للشائع والمألوف.

كما تكشف تجربة دوس، بما حملته من تفاصيل، عن غياب بيئة مؤسسية تضمن أن تُطرح مثل هذه المشروعات في سياق تنافسي شفاف. فما حدث لم يكن مجرد تجاهل لفنان أو لعمل بعينه، بل هو تجسيد لمشكلة أوسع، تتمثل في غياب المسابقة المفتوحة آليةً لاختيار الأعمال الكبرى، واعتماد القرارات على الأذواق الفردية بدل المعايير الفنية والمراجعات الجماعية. والنتيجة أن أعمالاً تحمل رؤية مبتكرة قد تُقصى لمجرد أنها لم توافق هوى مسؤول هنا أو هناك، بينما تُفتح الأبواب أمام المعالجات التقليدية التي لا تُضيف إلى المشهد البصري، ولا تُخلّد الشخصيات التي تُكرّمها على النحو الذي تستحقه.

هذا الجدل يُعيد إلى الواجهة أزمة أعمق يعانيها المشهد المصري فيما يخص الأعمال الميدانية. فمنذ سنوات، توالت نماذج لتماثيل نُفّذت في الميادين العامة بشكل أثار استياءً واسعاً، إذ افتقرت تلك الأعمال إلى المستوى الفني اللائق أو افتقدت التناسق مع البيئة العمرانية والبصرية المحيطة بها. ولا تزال في الأذهان صور تماثيل أثارت السخرية في محافظات عدة، لم تسلم من النقد اللاذع على وسائل التواصل الاجتماعي. وربما تكمن جذور الأزمة في غياب منهجية واضحة لإدارة هذه المشروعات. فبدلاً من اعتماد آليات تضمن تحقيق الجودة، مثل إطلاق مسابقات فنية أو دعوة لجان تقييم متخصصة، تُسند المشروعات إما بتكليفات مباشرة أو بقرارات فردية لا تخضع للمراجعة الكافية. وتكون النتيجة أعمالاً لا تُعبّر عن روح المكان، ولا تليق بالشخصيات المُكرّمة أو بالقيم التي يُفترض أن تُجسدها.

المفارقة هنا أن مصر تزخر بكليات الفنون الجميلة، وبالمئات من الخريجين الموهوبين، بينهم من أثبت قدراته في تقديم أعمال نحتية عالية المستوى. ومع ذلك، لا تزال المؤسسات المعنية تتردّد في تبنّي مبدأ المسابقة أو التنافس الحر، الذي من شأنه أن يتيح لهؤلاء الفنانين فرصة تقديم مقترحاتهم، ويضمن اختيار الأفضل بما يليق بتاريخ الفن المصري. إن أزمة تمثال الدكتور مجدي يعقوب، بما أثارته من جدل، ليست استثناءً، بل هي مرآة تعكس أزمة أوسع في إدارة المشروعات الفنية العامة. وتزداد خطورة هذه الأزمة حين نعلم أن كل عمل يُقام في الفراغ العام لا يخاطب الذائقة الجمالية لجيل واحد، بل يصبح جزءاً من المشهد البصري المشترك لأجيال متعاقبة. ومن ثم، فإن أي عمل يفتقر إلى الجودة أو الرؤية المتكاملة يُخلّف أثراً سلبياً لا يزول بسهولة.

وقد سبق أن أُصدرت قرارات حكومية لتلافي هذه المشكلات، نصّت على عدم تنفيذ أي عمل نحت أو نُصب تذكاري في فراغ عام إلا بعد الرجوع إلى وزارتي الثقافة والآثار، والجهاز القومي للتنسيق الحضاري. لكن، كما تكشف الوقائع، لا يزال الالتزام بهذه القرارات ضعيفاً في كثير من الحالات، أو يُطبّق بشكل صُوري لا يحول دون تكرار الأخطاء.

إن التمثال الميداني ليس مجرد كتلة برونزية أو حجرية تُوضع في فراغ، بل هو تعبير بصري عن وجدان مجتمع، وشهادة على عصره. لذا، فإن إقامة تمثال لشخصية بقيمة الدكتور مجدي يعقوب كان ينبغي أن تتحول إلى مناسبة للاحتشاد حول فكرة الجمال والامتنان، لا إلى موضع للخلاف أو الشكوى. وكان الأجدر أن يكون المشروع مناسبة لدعوة الفنانين إلى تقديم رؤاهم، واختيار الأفضل منها عبر منافسة نزيهة، تليق باسم الشخصية المُكرّمة، وتُعيد الثقة إلى جدوى الأعمال الفنية في الميادين العامة.

وفي النهاية، تبقى الحاجة قائمة لرؤية شاملة تُعيد الاعتبار لدور الفن في صياغة الفضاء العام، رؤية تجعل من كل تمثال أو نُصب تذكاري علامة حضارية، ومصدر إلهام، لا مادة للسخرية أو الانقسام. ولعل ما أُثير حول تمثال مجدي يعقوب يكون فرصة لإعادة فتح النقاش حول هذه الرؤية، والخروج من دائرة العشوائية إلى آفاق أرحب من الجمال والاحتراف والصدق في التعبير.


* كاتب من مصر

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية