من المُصطلحات التي ظهرت في خضم القفزات والتطوّرات الهائلة في التكنولوجيا الرقمية، مصطلح مجتمع المعرفة؛ هذا المصطلح الذي بدأ يروج بكثرة في أدبيات الإعلام المعاصر المُرتبط ارتباطًا وثيقًا بالثورة الرقمية الحالية. فما هو مجتمع المعرفة؟
توجد تعاريف كثيرة لمجتمع المعرفة منها: "أنه ذلك المجتمع الذي يقوم أساسًا بنشر المعرفة وإنتاجها ويوظفها بكفاءة في جميع مجالات النشاط المجتمعي: الاقتصاد، والمجتمع المدني، والسياسة، والحياة الخاصة، وصولاً لترقية الحالة الإنسانية باطراد، أي إقامة التنمية الإنسانية".
فالمعرفة، كما يقول الدكتور سليمان العسكري، رئيس تحرير مجلة العربي السابق: "أصبحت مصدر ثروة ومؤشر قوة، ليس فقط عبر تحويل بعض معطياتها إلى منتجات متطوّرة، عالية المردود الاقتصادي والاستراتيجي، بل أيضا بكينونة المعرفة ذاتها، كعنصر تنمية إنسانية لأبناء أي أمة تطمح إلى مكان لائق تحت شمس القرن الواحد والعشرين، ولأفراد أي مجتمع ينشد الانسجام مع شروط العصر".
فالعالم يعيش انفجارًا معرفيًا غير مسبوق، بحيث يندر أن يمر يوم من دون أن تحمل لنا المجلات المتخصّصة أنباء عن اكتشافات واختراعات جديدة.
إن توفير مناخ الحرية والديمقراطية من شأنه العمل على تقدّم مجتمع المعرفة كحقّ أساسي من حقوق الإنسان
ففي مجال الإلكترونيات، على سبيل المثال، تتوالى الاكتشافات، بحيث أصبح التراكم المعرفي يتزايد بمتوالية هندسية ويتضاعف كلّ 18 شهراً، وتشير المعطيات إلى أنّ البشرية قد راكمت، في العقدين الأخيرين، من المعارف مقدارَ ما راكمته طوال آلاف السنين السابقة التي شكّلت التاريخ الحضاري للإنسانية.
لكن لا نظن أنّ مجتمع المعرفة يقتصر على إنتاج المعلومة وتداولها فحسب، بل يحتاج إلى ثقافة تقيّم وتحترم مَنْ ينتج هذه المعلومة ويستغلها في المجال الصحيح، مما يتطلّب إيجاد محيط ثقافي واجتماعي وسياسي يؤمن بالمعرفة ودورها في الحياة اليومية للمجتمع. كما إنّ توفير مناخ الحرية والديمقراطية من شأنه العمل على تقدّم مجتمع المعرفة كحقّ أساسي من حقوق الإنسان.
خصائص مجتمع المعرفة
قد يدور تساؤل: متى نسمّي مجتمعًا ما أنه مجتمع معرفة؟
يجيب عن ذلك الدكتور أحمد أبو زيد، في كتابه "المعرفة وصناعة المستقبل" بقوله: "ثمة مؤشرات عدة يمكن الاعتماد عليها في تحديد ووصف مجتمع المعرفة؛ مثل مدى الاهتمام بالبحث والتنمية، والاعتماد على الكمبيوتر والإنترنت، والقدرة التنافسية في مجال إنتاج ونشر المعرفة على مستوى العالم. ومع أهمية هذه العناصر، فإن العنصر الأساسي المميّز لهذا المجتمع هو إنتاج المعرفة واعتباره إحدى الركائز الأساسية، التي يقوم عليها الاقتصاد الجديد، الذي تحل فيه المعرفة محل العمل ورأس المال، أي أن تكنولوجيا المعلومات والاتصال، وغيرها من أساليب ونظم التقنية المتقدمة، تلعب الدور الرئيسي في اقتصاديات المعرفة".
يعيش العالم اليوم انفجارًا معرفيًا غير مسبوق، بحيث يندر أن يمر يوم من دون أن تحمل لنا المجلات المتخصّصة أنباء عن اكتشافات واختراعات جديدة
ويتابع قائلًا: "يتميّز مجتمع المعرفة بعدد من المميزات والخصائص منها: توافر مستوى عال من التعليم، ونمو متزايد في قوة العمل التي تملك المعرفة وتستطيع التعامل معها، وكذلك القدرة على الإنتاج باستخدام الذكاء الصناعي وتحوّل مؤسسات المجتمع الخاصة والحكومية ومنظمات المجتمع المدني إلى هيئات ومنظمات (ذكية) مع الاحتفاظ بأشكال المعرفة المختلفة في بنوك المعلومات، وإمكان إعادة صياغتها وتشكيلها أو تحويلها إلى خطط تنظيمية... ".
مجتمع المعرفة العربي
من المُفترض أن تكون الدول العربية، من بين دول العالم الثالث الأكثر اهتمامًا بموضوع مجتمع المعرفة، نظرًا لحجم التخلّف الجاثم على صدورنا وعقولنا وازدياد الفجوة الرقمية التي تفصلنا عن الغرب والشرق على السواء. ولهذا فإنّ حاجتنا ملحة بأن ترقى مجتمعاتنا العربية إلى نمط مجتمع المعرفة، وقد وضع تقرير التنمية الإنسانية العربية الثاني لعام 2003م خمسة شروط لإقامة مجتمع معرفة عربي وهي: إطلاق حريات الرأي والتعبير والتنظيم وضمانها بالحكم الصالح، والارتقاء بمستوى التعليم مع إيلاء عناية خاصة لطرفي المتصل التعليمي، وللتعليم المستمر مدى الحياة، وتوطين العلم وبناء قدرة ذاتية في البحث والتطوير التقاني في جميع النشاطات المجتمعية، والتحوّل الحثيث نحو نمط إنتاج المعرفة في البنية الاجتماعية والاقتصادية العربية، وتأسيس نموذج معرفي عربي عام أصيل، متفتّح ومستنير.
لكن هذا الأمر لن يتأتى دفعة واحدة، بل يحتاج إلى مراحل لتكوين مجتمع المعرفة المنشود؛ ففي المرحلة الأولى توجد طليعة مجتمع المعرفة ومستخدمي التقانة الحديثة، فيما تتطلّب المرحلة الثانية تكثيف الإصلاح، واستخدام العلم والتكنولوجيا المتاحة، في حين يحدث في المرحلة الثالثة تكامل مجتمع المعرفة ومستخدمي التقانة الحديثة وتزايد المبتكرين والمبدعين.
وهؤلاء الطليعة يكون دورهم، كما يقول الدكتور أحمد أبو زيد: "بتنشئة أجيال جديدة من المواطنين تكون لهم توجهات مختلفة عمّا هو سائد الآن وقدرات على التأمل والتفكير والإبداع والابتكار، بحيث يؤلفون قوة ضخمة عاملة في إنتاج المعرفة، وهم مَنْ يُطلق عليهم الآن اسم عمّال المعرفة Knowledge workers الذين يكرّسون جهودهم في إنتاج وتطوير وتطبيق المعرفة في مختلف المجالات، فإنتاج المعرفة يحتاج إلى وجود ثقافة معرفية متميزة، في مجتمع مهيأ للتعامل معها وفهمها، وإلا أصبح ما نسميه مجتمع المعرفة مجرّدَ هيكل مادي خالٍ من الإنسانية، وفارغٍ من الحياة".
أختم بمقولة رئيس وزراء ماليزيا الأسبق مهاتير محمد عام 1991م، وهو يصف ما يجب أن يكون عليه المجتمع الماليزي، حتى يمكنه مسايرة الأوضاع الجديدة، التي سوف تنشأ في المستقبل القريب: "لقد مرَّ على الإنسانية وقتٌ كانت الأرض تعتبر فيه هي الأساس الضروري للازدهار والثروة، ثم جاءت مرحلة تالية تتمثل في عصر التصنيع، وفيه ارتفعت المداخن حيث كانت تقوم الحقول. أما الآن فإن المعرفة أصبحت تؤلّف، وبشكل متزايد، ليس فقط أساس القوة، ولكن أيضًا أساس النجاح والتقدم، ولذا فيجب ألّا نبخل ببذل أي جهد لإقامة مجتمع ماليزي معلوماتي غني".
ونحن في عالمنا العربي، ما أحوجنا لمثل هذه التوجهات.
أخبار ذات صلة.
