منذ تأسيس المحكمة الاتحادية العليا في العراق بعد عام 2003، طُرحت أسئلة جوهرية بشأن دورها وموقعها من الديمقراطية الوليدة، وحجم الاستقلال الذي تمتّع به هذا الكيان القضائي الذي أُوكلت إليه مهمّة حماية الدستور والرقابة على التشريعات وحسم النزاعات بين السلطات ومراعاة ملاءمتها للحريات والحقوق الدستورية.
لكن المسار الذي اتخذته المحكمة خلال السنوات الماضية، خصوصاً بعد 2010، ثم بشكل أكثر وضوحاً بعد احتجاجات تشرين 2019، يشير إلى تحوّل خطير: من كونها سلطة دستورية عليا إلى أداة سياسية في يد قوى النظام، تُستخدم لإضفاء الشرعية على الانحرافات، والتضييق على الحريات، بل وعرقلة التحوّل الديمقراطي نفسه.
في مراجعة سريعة لبعض أبرز قرارات المحكمة الاتحادية، نجد أنها كثيراً ما لعبت دوراً سياسياً صريحاً يتجاوز وظيفتها القضائية. قرارها الشهير في 2022 بشأن إلغاء قانون النفط والغاز في إقليم كردستان، على سبيل المثال، جاء في سياق صراع مركزي سياسي، وليس قانونياً، ليمنح بغداد غطاءً قضائياً لإعادة الهيمنة على موارد الإقليم. ثم جاء قرارها في الطعن بقانون تجميد عمل هيئة رئاسة البرلمان (2023) ليتحوّل من مسألة دستورية إلى تدخل مباشر في صراع المحاور السنية الشيعية حول رئاسة البرلمان وختمها رئيس المحكمة جاسم العميري بنهاية مأساوية لهذه المحكمة باستدعائه الأحزاب السياسية للتدخّل المُباشر في القضاء الدستوري.
رفضت المحكمة طعنًا تقدّم به ناشطون مدنيون ضدّ قوانين تغلّف الرقابة المجتمعية باسم "الآداب العامة"
هذا النمط من التدخّلات يؤشّر على أنّ المحكمة أصبحت فاعلاً سياسياً بامتياز، تحكم بناءً على توازنات القوى وليس بناءً على نصوص الدستور وروحه.
في مرّات عديدة، بدت المحكمة وكأنها تُفسّر الدستور لا وفق مبدأ "نص وروح"، بل وفق مبدأ "ما يطلبه النظام". قراراتها المُتعلّقة بتفسير الكتلة الأكبر، والثلث المعطّل، جاءت في سياقات سياسية ضاغطة، وكانت نتائجها محسومة قبل صدورها.
بل الأسوأ من ذلك، أنّ المحكمة لم تعد تكتفي بتفسير النصوص، بل بدأت تمارس وظيفة "التشريع القضائي"، وهي سلطة لا يقرّها لها الدستور، وذلك حين تبتدع حلولاً خارج النص الدستوري بذريعة غيابه أو غموضه.
الخطير أنّ هذه المحكمة لم تكتفِ بإسكات الخصوم السياسيين، بل راحت تمسّ جوهر الحريات المدنية. ففي شباط 2024، أصدرت قراراً يقضي بعدم دستورية قانون حرية التعبير والتظاهر السلمي بصيغته الأخيرة، ما أعاد البلاد إلى فراغ تشريعي يُستخدم الآن لتجريم التظاهر والنشاط المدني. وفي سابقة أكثر فجاجة، رفضت المحكمة طعناً تقدّم به ناشطون مدنيون ضدّ قوانين تغلّف الرقابة المجتمعية باسم "الآداب العامة".
لم تكتفِ المحكمة بإسكات الخصوم السياسيين، بل راحت تمسّ جوهر الحريات المدنية
وفي مارس/ آذار 2023، رفضت المحكمة الاتحادية الطعن المُقدّم لإلغاء قانون حظر استيراد المشروبات الكحولية وبيعها، رغم مخالفته الصريحة للدستور العراقي الذي يضمن احترام التعددية الدينية والثقافية. هذا الرفض مثّل انتكاسة واضحة لحرية المُعتقد ونمط الحياة في بلد متنوّع الأديان والطوائف، وضرباً صريحاً لمبدأ حيادية الدولة تجاه الأديان، وتحوّلاً إضافياً نحو فرض إرادة أيديولوجية تحت غطاء القضاء.
حين تتحوّل المحكمة الاتحادية إلى جهة تمنح الشرعية لانتهاكات دستورية، وتقف خصماً للحريات، فإنها لم تعد مؤسّسة دستورية، بل جزءاً من منظومة "تقييد التحوّل الديمقراطي". ومع غياب التوازن بين السلطات، وتغوّل السلطة التنفيذية، فإن وجود محكمة مُنحازة يفقد الدولة واحدة من أهم ضمانات الاستقرار والتداول السلمي.
بل يمكن القول، بكلّ وضوح، إنّ المحكمة أصبحت أحد العوائق الأساسية أمام بناء الدولة العراقية الحديثة، حين أصبحت تُدار بمنطق التوازنات السياسية، لا بمنطق النصوص والعدالة.
الحديث عن "إصلاح" المحكمة الاتحادية بات متأخّراً وغير ذي جدوى. فالتجربة أثبتت أنّ الخلل بنيوي لا وظيفي، وأنّ بقاءها بشكلها الحالي سيظلّ يهدّد أيّ محاولة لبناء نظام قانوني مستقل. المطلوب اليوم، ضمن أيّ عملية إصلاح سياسي شامل، إعادة تأسيس المحكمة بقانون جديد يضمن استقلالها الفعلي، ويربطها بسلطة رقابية شعبية أو برلمانية واضحة، ويضع حداً لتحوّلها إلى "أداة شرعنة القمع".
لا ديمقراطية دون قضاء مستقل، ولا حرية من دون محكمة عادلة. وما لم تُسترد المحكمة الاتحادية إلى موقعها حارسةً للدستور وحقوق الناس، فإنّ الحديث عن "تحول ديمقراطي" سيظلّ مجرّد وهم، أو بالأحرى غطاءً لمزيد من السيطرة والاستبداد المقنّن.