
في "إعادة بعث" (2025)، يؤكّد الصيني بي غان موهبته وثقافته السينمائية العريضة، ومكانته المرموقة بين أعلام السينما الصينية، وفي العالم. وهذا لفرادة ما يُقدّمه، جمالياً وفكرياً، وأسلوباً. ففي عصرٍ يفتقر غالباً إلى الموهبة والأصالة والجرأة على التجديد والتجريب والابتعاد عن المألوف، وللثقافة السينمائية الواسعة، يُثبت غان أنّه معلّم قادم بقوة في السينما الحديثة.
من اكتشاف سرّ كامن في الحياة الأبدية، تبدأ حبكة "إعادة بعث"، الفائز بجائزة خاصة في الدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان "كانّ". ببساطة، لا تحلم: هذا سرّ الخلود. لكنّ الأمر ليس سهلاً، فهناك من يختار أنْ يحلم سرّياً. هؤلاء، "محبّو الخيال والأحلام"، يتعرّضون لقمع "الآخرين الكبار"، الذين يطاردونهم ويوقظونهم لمنعهم من الضياع في عالم الأحلام.
هذا الخيط العريض للأحداث الملحمية يمرّ في خمسة فصول وخاتمة (160 دقيقة)، كلّ منها يروي حقبة سينمائية مختلفة، بأسلوب وتنوّع وبناء سردي تنهل كلّها من مدارس الصناعة وتاريخها وأساتذتها في 100 عامٍ. فكرة الحبكة ركيزة فقط لربط السرديات المختلفة بعضها ببعض، من دون مراعاة كبيرة للقواعد المعتادة للسرد الخطي، أو البناء المألوف للأحداث والشخصيات، الخاضعة كثيراً لمنطق الأحلام والأفلام.
ما سبق ليس مُعلّقاً في فراغ، بل يستند إلى أسس وقواعد يُطوّعها بي غان برؤية بصرية خاصة، مُستلهماً أفلاماً ومحطات في تاريخ السينما أكثر من أي شيء آخر، ولا سيما المنطق الدرامي. لم ينبع طموحه من تصوير لغة الأحلام سينمائياً، بل سرد حكاية/رحلة بطله عبر تاريخ السينما نفسها. لذا، لجأ إلى تيمة الحلم والخيال، المتقاطعة وبنية السينما.
يبدأ "إعادة بعث" وينتهي بمشاهد في صالة عرض، تنبض بالحياة، من عصر السينما الصامتة، وأفلام/ألعاب جورج ميلييس وغيره من الروّاد، خاصة الأخوين لوميير، والواقعية الألمانية، تحديداً "نوسفيراتو" (1929) لفريدريش مورناو، والديكورات الشاذة المشهورة في "خزانة الدكتور كاليغاري" (1920) لروبرت وين، وفكرة الوحش/مصّاص الدماء. مع إطارات صناعة الأفلام حينها، وتقنياتها وإيقاعاتها، يُتابَع الحالم المتمرد (جاكسون يي)، ومُطَارِدَته (شو كوي)، المنتقل من عصر إلى آخر بشخصيات مختلفة، ومظاهر جديدة في كلّ منها.
الحالم لا يشيخ، تقريباً. يُسافر زمنياً، ويقفز من حقبة إلى أخرى، بلغة كلاسيكيات عشرينيات القرن الـ20 وأربعينياته وما بعدهما، فتتسع مساحة الشاشة، وتحضر الألوان، وتسود تيمة "فيلم نوار" وأفلام التجسّس والجريمة. ثم يظهر الحالم بعد 30 عاماً عاملاً في معبد بوذي مهجور، في فصل الشتاء، فتُروى حكاية خرافية طريفة، تضرب عميقاً في جذور الفولكلور الصيني.
بعد 20 عاماً، يُصبح الحالم أباً فاسداً لصبية، يُطوِّع قدرتها الخارقة على "شمّ" البطاقات الورقية الرابحة، لممارسة الاحتيال في لعبة الورق. أخيراً، ليلة رأس السنة الجديدة عام 1999، يعود شاباً يافعاً، ويلتقي فتاة ساحرة، في لقطة تستمر 40 دقيقة متواصلة، تعيد إلى الأذهان ختام النصف الأخير من فيلمه السابق "رحلة نهار طويل إلى الليل" (2018)، المُصوّر بالكيفية نفسها، لكنْ بأبعاد ثلاثية تطلّبت ارتداء نظّاراتٍ خاصة. هذا من دون إغفال السمات المميّزة لمراحل التصوير في الأزمنة المختلفة، والخام الفيلمي ثم الرقمي، واللقطات المُصوّرة بالكاميرات المحمولة، وغيرها.
مُجدّداً، يستلهم بي غان مَشاهد معيّنة لمخرجين عالميين. من خلال إصراره هذا، يؤكّد أصالته وهضمه تراث السينما، لا سرقته أو انتحاله، مُعيداً تقديم مشاهد غير خفية على محترفين وخبراء، لكنْ بطريقته، وفي سياق سينمائي خاص، فيبدو التقديم مغايراً ومُدهشاً، أو مُربكاً، ما يستدعي مقارنة الماضي بالحاضر. تجلّى هذا في فيلمه السابق، بتكرار تيمات للروسي أندره تاركوفسكي، كالتفاح والحصان، في "طفولة إيفان" (1962). والمشهد الشهير لتحريك الكوب حتى سقوطه عن الطاولة في "ستالكر" (1979).
في "إعادة بعث"، يحضر تاركوفسكي مُجدّداً في تسلسل المعبد، وروّاد السينما الصينية، بمدارسها المختلفة، كوونغ كار ـ واي، وألفرد هيتشكوك بأطيافه المتعدّدة، وانغمار برغمان وأكيرا كوروساوا وآخرين.
لن يُثير "إعادة بعث" اهتمام من ليس على دراية بتاريخ السينما، لعجزه عن تفسير/استيعاب مشاهد وأنواع سينمائية عدّة، وأساليب يتضمّنها، كاستعارات لتاريخ السينما وتكريم روّادها. ليست سهلة المتابعة، ولا المشاهدة مريحة. ولفيلم غير موجَّه إلى العامة (لن يكون هناك تفاعل سريع)، ولا إلى أصحاب العقليات المتكلّسة والاستهلاكية. لذا، ستُقدّر قلّة ما يقدّمه بي غان من سحر ومتعة فكرية وجمالية، وسينما فنية خالصة.
مع هذا، تُتيح موهبة غان وذكاؤه، وفريق فيلمه الذي أنجز جماليات صُور عنف دموي ومشاهد مبتكرة، ليس فقط انغماساً كاملاً فيه، بل أقلّه استمتاعاً بمشاهد ـ لوحات فنية. عبر رحلة ساحرة، أبدع أوديسة زمنية سينمائية، عابرة للأنواع، لا تخلو من هنات، أعاد فيها إحياء السينما الفنية، والتحذير من احتضارها، وبثّ الأمل في احتمال انبعاثها مُجدّداً.
