كم مرّة سيُسجّل العالم أنني لاجئة؟
عربي
منذ 7 ساعات
مشاركة

قالت لي ابنتي، وهي ترى ما أفعله يومياً، إنني، باختصار، أعاني مما يُسمّى "اضطراب ما بعد الصدمة"، ومن الضروري أن ألتقي بأخصائي نفسي يساعدني على تجاوز هذه الأعراض. ولكني لا أُلقي بالاً لما تقول، وأعرف أن ما أمرّ به أعراض لمضاعفات ما مررتُ به سابقاً، وما مرّ به جدّي وأبي وأهلي في غزّة، وأن العلاج لا يكون فردياً على الإطلاق.

لذلك، لا أتوقّف عن الوقوف أمام الخزانة الصغيرة التي أصبحتُ أضع فيها ثيابي ومتعلّقاتي، وذلك كل يوم، وفي أي وقت من النهار، بلا تحديد. أشرع في فتح أبوابها، ثم أُحضِر حقيبة السفر الوحيدة التي أملكها، وأجرّب أن أرصّ أشيائي فيها. فإذا ما تأكّدتُ من أن الحقيبة كافية لتمتلئ بتلك الأشياء، أُعيد كل شيء إلى مكانه داخل الخزانة، ثم أغلقها جيداً، وكأنني آتمنها على سرّ. بعد ذلك، أجلس على حافّة السرير، وأتنهّد بعمق، وأُرسل خيالي نحو أحبّتي وأهلي في غزّة، فأراهم من ثقوب خيامهم في أسوأ حال.

لا أدري كيف تأتي هذه الفكرة فجأة إلى عقلي، فأنفّذها، ولكنّ ذلك يحدُث بلا توقّف.

بعد أن خرجتُ من المقتلة بجسدي، وأصبحتُ في بلاد بعيدة، وتركتُ خلفي كل شيء في غزّة (أمضيت فيها نصف قرن من عمري) اكتشفت، يوم أن تركت بيتي الأول، أن حقيبة واحدة لا تكفي. لكني، اليوم، لا أريد أن أقع في المصيدة للمرة الثانية، فلا أحتفظ إلا بأشياء تملأ حقيبة واحدة فقط، لأني أدركت تماماً أن من هم مثلي، هم بلا مكان... بلا وطن.

أتساءل كثيراً: هل مرّت كل هذه السنوات، منذ 1948، على أجدادنا وآبائنا في غزّة، بمثابة كذبة؟ أم أن الوصول إلى غزّة، من قرى فلسطين ومدنها الواسعة، لم يكن سوى محطّة؟ وإن طال المكوث فيها ما يقارب 77 عاماً.

وأتساءل: هل يمكن أن يقضي الإنسان كل هذا العمر في محطّة انتظار، لينتقل بعد ذلك، لو طال به العمر، إلى مكان آخر؟ أو لِيُنتَزَع من بيته، حيث أمانه وراحته، ويُلقى في العراء، ما بين السماء والأرض، وقد أصبح في أرذل العمر، فيما حمم الموت وطرق الفناء تلاحقه ليلاً ونهاراً؟

أتساءل كثيراً، بينما يحتفل العالم بـ"اليوم العالمي للاجئ"، عن معنى كلمة "لاجئ"، وكيف أُحيكت المؤامرة على شعبٍ صاحب أرض. كيف يمكن أن يكون الإنسان لاجئاً ومضطهداً في بلده؟ ولو لم يكن ذلك ممكناً، لما خصصت دول إفريقية عديدة يوماً للاجئ الأفريقي، بسبب ما يواجهه مواطنوها من كوارث إنسانية وطبيعية، تجعل حياتهم مهدّدة، ويُنتزع منهم الأمان حتى داخل أوطانهم.

ولهذا، حملوا صفة "اللجوء"، واستعارت منهم الدول هذه الفكرة، فخُصّص "يوم عالمي للاجئين" يصادف يومهم نفسه، على اعتبار أن اللاجئ هو المضطهد والضعيف... حتى في وطنه.

أتساءل أيضاً: أي عذابٍ يطيقه الغزّيّون اليوم في غزة، وهم يتنقّلون من مكان إلى آخر؟ فيما تتخلّى عنهم المؤسسات الدولية، وتتراخى في حمايتهم ومساعدتهم، وهي التي أُنشئت خصيصاً من أجلهم؟ ينهشهم الجوع، وتلوّث مياه الشرب، ويفتك المرض وسوء التغذية بكبارهم وصغارهم.

يكتشف الإنسان، حين يصبح في محنة، أن الشعارات سوف تُرفَع من أجل مساعدته، لكنّه، على أرض الواقع، سيجد نفسه وحيداً ومنسيّاً، كما يحدث في قطاع غزة اليوم، حيث يموت اللاجئ الجديد فوق أرضه... بصمت.

إذا كانت صفة اللجوء تطاردنا، فمحاولة الحفاظ على الإنسان الفلسطيني واجبة على كل فلسطيني. وإن كان العدوّ يحاول، بهذه المقتلة في غزّة، تعزيز وجوده الثاني، فإن هذه المحنة القاسية التي تذوب فيها الأرواح قبل الأجساد، أصبحت بمثابة ضوء مباغت، كاشف لحقيقة النظام العالمي، وفاضح زيف القيم الغربية الحديثة، تلك التي تُلقي بي، كل يوم، في محطة لجوئي الجديدة... أمام حقيبة واحدة فارغة.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية