"المسألة اليهودية".. لم تُحل
عربي
منذ 11 ساعة
مشاركة

لطالما شكّلت ما تُعرف تاريخيًا بـ"المسألة اليهودية" مصدر توتّرٍ عميق في التاريخ الأوروبي، وتحوّلت من أزمة داخلية تعكس فشل أوروبا في استيعاب مواطنيها من أتباع الديانة اليهودية، إلى كارثة عالمية حين تمّ تصديرها إلى أرض فلسطين.

بهذا، تحوّل العالم من مشكلة واحدة تتعلّق بالاندماج وحقوق الإنسان في أوروبا، إلى مأساة مركّبة تُعرف اليوم على نحو مُضللِّ بالقضيتين: اليهودية والفلسطينية! لكن الحقيقة التي يغفل عنها كثيرون، هي أنّ ما يعاني منه العالم اليوم، وخاصة أوروبا والدول العربية، ليس "قضية فلسطينية" بالمعنى الجوهري، بل استمرار لأزمة يهودية أوروبية لم تُحلّ في موطنها الأصلي، فالقضية الفلسطينية ليست إلا انعكاساً للمشكلة الأصلية: فشل أوروبا في التعامل مع اليهود بوصفهم مواطنين، ومحاولة تصدير هذا الفشل إلى أرض ليست لها!

منذ العصور الوسطى وحتى بدايات القرن المنصرم، واجه اليهود في أوروبا، حصراً، اضطهاداً دينياً وتهميشاً اجتماعيًا وعزلاً اقتصاديًا. ولم تكن هذه المسألة دينية بحتة، بل ارتبطت أيضاً بالبُنى القومية الناشئة في أوروبا، والتي لم تكن قادرة على استيعاب الأقليات على أنهم جزء من نسيجها القومي، وقد بلغ الاضطهاد ذروته، فيما يدّعيه اليهود والغرب، بجريمة المحرقة (الهولوكوست)، التي ارتكبتها ألمانيا النازية، وأودت بحياة ملايين اليهود.

وفي محاولة للهروب من هذه المأساة، ظهرت الحركة الصهيونية بما هي دعوة لإقامة وطن قومي لليهود، ليس في أوروبا، بل في أرض فلسطين، مستندة إلى وعود استعمارية أوروبية أبرزها وعد بلفور عام 1917.

واجه اليهود في أوروبا، حصراً، اضطهاداً دينياً وتهميشاً اجتماعيًا وعزلاً اقتصاديًا

وبدلًا من معالجة المشكلة داخل حدودها الجغرافية والثقافية، اختارت أوروبا ومعها الولايات المتحدة تصدير المسألة اليهودية إلى الشرق العربي، وهكذا تحوّلت فلسطين، التي كانت تحت الانتداب البريطاني، إلى مختبر لحلّ أزمة أوروبية عبر خلق أزمة جديدة لشعب آخر.

عام 1948، وهو عام النكبة العربي، أُعلن عن قيام دولة الاحتلال "إسرائيل" على أنقاض مدن وقرى فلسطينية دمّرتها العصابات الصهيونية، في واحدة من أفظع عمليات التطهير العرقي في العصر الحديث. ولم يُحل بذلك الهاجس الأمني والوجودي لليهود، بل وُلدت مأساة جديدة اسمها "القضية الفلسطينية"، والتي في جوهرها ليست سوى نتيجة مباشرة لفشل الغرب في حلّ المسألة اليهودية على أرضه.

فالفلسطينيون لم يطالبوا بأكثر من حقّهم في العيش في وطنهم، وهم ليسوا أصحاب أزمة وجودية أو دينية أو قومية، على العكس، الأزمة الأصلية كانت وستبقى أزمة يهودية أوروبية تمّ تفريغها قسراً في فلسطين.

والحل الفلسطيني واضح ومباشر: الاعتراف بالحقوق الوطنية والإنسانية للشعب الفلسطيني، ووقف الاحتلال والاستيطان، وقيام دولة فلسطينية مستقلة، ما يُعقّد الأمر ليس "تعقيد القضية الفلسطينية"، بل عدم استعداد الغرب للاعتراف بأن مشكلته الأصلية ما زالت قائمة ولم تُحلّ جذرياً.

الأزمة الأصلية كانت وستبقى أزمة يهودية أوروبية تم تفريغها قسراً في فلسطين

أوروبا والولايات المتحدة مسؤولتان عن النكبتين: الأولى حين فشلتا في استيعاب اليهود بوصفهم مواطنين، والثانية حين قرّرتا أنّ علاج هذا الفشل يكون على حساب شعب أعزل في أرضٍ لا علاقة له بأخطاء الغرب، ولا يمكن تبرئة الضمير الغربي من خلق مأساة مزدوّجة تستمر فصولها حتى اليوم.

لقد خلقت أوروبا والولايات المتحدة مأساة مركّبة حين حاولتا "حل" مسألة عبر خلق أخرى، وتفكيك التشابك بينهما، ومعالجة هذا الإرث المركّب، بحاجة لحل عادل، يتضمّن الاعتراف الأوروبي الكامل بمسؤوليته عن نقل الأزمة إلى فلسطين، وإعادة طرح المسألة اليهودية قضيةً أوروبية داخلية لم تُحلّ بعد، يجب معالجتها في السياق الأوروبي والغربي.

وكذلك الضغط الغربي الفعلي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإنهاء نظام الفصل العنصري، وفصل الدعم لإسرائيل عن عقدة الذنب الأوروبي، وربطه بالقانون الدولي وحقوق الإنسان، وتمكين الفلسطينيين من إقامة دولتهم التاريخية المستقلة وعاصمتها القدس.

العالم اليوم لا يعاني من "قضية فلسطينية" بقدر ما يعاني من أزمة يهودية تمّ إسقاطها على أرضٍ ليست طرفاً فيها، ولن تنعم البشرية بسلام حقيقي من دون معالجة الجذر التاريخي لهذه الأزمة، بشكل يُعيد الحقوق لأصحابها، ويضع حدّاً للاستيطاني الحديث باسم الأمن والتاريخ.

بكلمات أوضح: لن تُحل المسألة اليهودية إلا حين يُعترف بأنها لم تُحلّ أصلاً، وأنّ محاولات تفريغها في فلسطين خلقت كارثة أخلاقية وإنسانية وحضارية ممتدّة، وحلُّ هذه الأزمة لا يبدأ في غزّة أو رام الله، بل في بروكسل ولندن وباريس وواشنطن.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية