
في أحد أبرز الأعمال الدرامية المنتَجة بهوليوود هذا العام، يشارك الموسيقي العراقي يوسف عباس في تأليف الموسيقى التصويرية لمسلسل Debriefing the President، الذي يتناول سيرة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين. تأتي هذه المشاركة ضمن مسار فني بدأ مبكراً من بيت العود، مروراً بالتدريس، ثم التأليف الموسيقي للدراما العربية، حاصداً خلالها عدداً من الجوائز. عن هذه التجربة وتفاصيل رحلته الفنية، التقته "العربي الجديد".
تنتمي إلى بلدٍ عرف أسماء مهمّة في تاريخ العود، مثل محيي الدين حيدر وجميل ومنير بشير ونصير شمة. كيف انعكس هذا الإرث على تجربتك؟
نشأت وسط هذا التراث، وكلّ اسم من تلك الأسماء لم يكن مجرد عازف أو معلم بالنسبة لي، بل كان يمثل توجهاً فكرياً وجمالياً قائماً بذاته. محيي الدين حيدر قدّم إضافات تقنية مهمة، وجميل بشير انفتح على الموسيقى الغربية، ومنير بشير جعل من العود أداة تأمل روحي، ونصير شمة أضاف بعداً تربوياً. هذا كله أثّر في تكويني، لكنه لم يتحول إلى قيد، بل ساعدني على البحث عن صوتي الخاص، ولهذا بدأت تعلم العود في سن الثانية عشرة، وبعد عام واحد أصبحت أدرّسه.
درست ودرّست في بيت العود. كيف تصف هذه المرحلة؟
كانت بمثابة مختبرٍ للوعي الموسيقي، وليست مجرد مؤسسة تعليمية. هناك تعلّمت الانضباط، واختبرت مسؤولية نقل المعرفة إلى الآخرين في سنّ مبكرة. كنت أدرُس في الصباح وأدرّس في المساء، وهذا التداخل بين التعلُّم والتعليم صقل شخصيتي الموسيقية. احترمت كل من أدرّسهم، وغالبيتهم كانوا أكبر مني سناً. هذا ما جعلني أتحلى بالتواضع والتركيز منذ البداية، وهو ما بقي معي حتى اليوم.
التقيت صغيراً بعمار الشريعي، وقد أثنى على عزفك. كيف ترى تجربته؟
كنت في الحادية عشرة من عمري عندما عزفت أمامه. الشريعي يمثّل مدرسة تهتم بالبساطة التي لا تفقد العمق، وهي سمة أحترمها كثيراً. في المقابل، المدرسة العراقية غالباً ما تميل إلى استخدام المقامات والتعقيد اللحني، لكنْ هناك تلاقٍ بين المدرستين في الصدق العاطفي والرغبة في التعبير. هذا اللقاء مع الشريعي أكد لي أن هناك مكاناً لما أحاول التعبير عنه.
حصلت على تقدير مبكر أستاذاً في سن الثالثة عشرة، وفزت بجائزة قرطاج وميدالية منير بشير وأنت في الخامسة عشرة. كيف أثر ذلك عليك؟
هذه الإنجازات كانت بمثابة مسؤولية أكثر منها تكريماً. أن تكون أستاذاً في هذا العمر يعني أن تثبت يومياً أنك تستحق هذا الموقع. الجوائز منحتني دفعة قوية، لكنها لم تكن النهاية، بل بداية لطريق طويل من العمل والانضباط. الأهم أن هذا التقدير ساعدني على بناء رؤية فنية أوسع، وجعلني أؤمن بأن للعود مستقبلاً إذا قُدم ضمن سياقات جديدة.
في أعمالك الدرامية مثل "النقيب"، و"دار المسنين"، و"بغداد الجديدة"، وغيرها، لاحظنا غياب العود. ما السبب؟
العود حاضر في خلفية تفكيري دائماً، لكنه ليس شرطاً أن يظهر في كل عمل. في التأليف الموسيقي للدراما، ما يحدد طبيعة الصوت هو السياق الدرامي، وليس هوى المؤلف. في "دار المسنين" احتجنا إلى صوت ناعم وهش، وفي "النقيب" ركزنا على الإيقاع لإبراز التوتر، أما في "بغداد الجديدة" فقد تطلب العمل أجواءً إلكترونية تعكس التلاشي والذاكرة. في جميع هذه الأعمال اخترت الآلات التي تخدم الفكرة الدرامية، وهذا ما أعتبره جوهر العمل الموسيقي الصادق.
لك أكثر من كونشيرتو للعود مع الأوركسترا. كيف تتعامل مع التفاوت بين حرية العود وصرامة الأوركسترا؟
أتعامل مع الأمر بوصفه محاولة لخلق حوار بين نظامين مختلفين. العود بطبيعته آلة مرنة، تميل إلى التعبير اللحظي، بينما الأوركسترا تعتمد على الانضباط والكتابة الدقيقة. لذا، أترك في أعمالي مساحات ارتجالية للعود داخل إطار محكوم، وأوزّع الأدوار بحيث تحافظ الأوركسترا على هيكلها، وفي الوقت ذاته تفتح المجال للعود للتعبير. أستخدم تقنيات من الموسيقى الغربية المعاصرة لتحقيق هذا التوازن، والهدف هو أن يبدو العمل وكأنه مكتوب ومرتجل في آن.
شاركت في تأليف الموسيقى التصويرية لمسلسل Debriefing the President. كيف كانت هذه التجربة، وما المختلف فيها؟
ما كان لافتاً هو أن الموسيقى لم تُضف بعد انتهاء التصوير كما هو شائع، بل كنا نعمل توازياً مع الكتابة والإخراج. أتاح لي ذلك أن أكون جزءاً من بنية العمل، وليس مجرد ملحق به. استخدمت العود ضمن إطار أوركسترالي معاصر، وسجلنا الموسيقى في أرمينيا ورومانيا، ونخطط لتسجيل الإيقاعيات في اليابان. المختلف أيضاً أن المسلسل يتناول شخصية محورية في التاريخ العراقي، وكانت هناك حاجة إلى موسيقى تُعبّر عن التوتر والذاكرة والصراع الداخلي. في مشهد الإعدام تحديداً، استخدمنا العود ليكون صوتاً داخلياً يعكس الصراع الروحي. لم يكن الهدف تقديم العود رمزاً شرقياً، بل وسيلة تعبير دقيقة.
كيف كانت تجربتك مع المخرج ليزلي غريف؟
تعلمت منه كيف تصبح كل جملة موسيقية جزءاً من البنية السردية. كان يطلب أقصى درجات الدقة في التعبير، وكل مشهد يتطلب مقاربة مختلفة. التحدي كان في كيفية خلق توازن بين الجملة الموسيقية والجملة الحوارية، من دون أن تطغى إحداهما على الأخرى. هذه التجربة جعلتني أدرك أن الموسيقى العربية، حين تُقدَّم بوعي وبنية جمالية واضحة، يمكنها أن تتجاوز الحواجز بسهولة.
هل تعتبر هذه التجربة بداية لتحول في مسيرتك؟
ربما ليست تحولاً بقدر ما هي استمرار لما كنت أؤمن به. لم أقدّم نفسي موسيقياً شرقياً يبحث عن مكان في العالم، بل مؤلفاً له صوت خاص، يقدّم موسيقاه انطلاقاً من هويته. المسألة ليست في الانتقال من مكان إلى آخر، بل في إيصال صوتك كما هو، بصورة ناضجة ومتماسكة. وهذا ما أطمح لمواصلته في المشاريع القادمة.
