الأدب الأفريقي ما بعد المقاومة
عربي
منذ 4 ساعات
مشاركة

برز الأدب الأفريقي الناطق بالفرنسية في منتصف القرن العشرين بوصفه مساحةً للثورة، والمصالحة الرمزية، واستعادة الهوية. وقد تشكّل في ظلّ صدمة الاستعمار، متأرجحاً بين الإرث الثقافي الأفريقي واللغة الفرنسية والتطلع إلى التحرّر. لم يكن هذا الأدب "أدبياً" بالمعنى الضيّق للكلمة، بل ظلّ دوماً مشتبكاً مع التاريخ، مشغولاً بمعالجة آثاره وتبعاته. هكذا، من خلال أسماء مؤسِّسة كليوبولد سيدار سنغور، وإيمي سيزير، وفرانز فانون، وماريز كوندي، اتخذ هذا الأدب طابعاً تأسيسياً، بل واستشرافياً أحياناً، أو احتجاجياً في أغلب الأحيان. لم يكن هدفه تمثيل العالم الأفريقي فحسب، بل إعادة تشكيله رمزياً بعد قرون من التهميش والاستعباد والاستغلال، باعتباره أداةً فكرية في مواجهة الاستعمار، وملاذاً للهوية، ومنصة لحلم جماعي جديد.

تطوّر المشهد مع ظهور جيل لاحق من الكتّاب مثل ألان مابانكو، وليونورا ميانو، وعبد الرحمن وابري، وسكولاستيك موكاسونغا، عالجوا قضايا مختلفة تتعلّق بالشتات، والإبادة، والإيكولوجيا، والحركات النسوية، والهوية الجنسية، وانهيار الأحلام الكبرى. ورغم هذا التنوع، تبقى رسالة هذا الأدب الأساسية قائمة: الكتابة ليست فعلاً بريئاً. إنها مقاومة، وتذكير، وإعادة تشكيل للذات والعالم. إنها حلم يولد من تحت الخراب، وكلمة تأبى النسيان والخضوع.

اللغة بين نزع الملكية والقوة الشعرية

من أبرز سمات الأدب الأفريقي أنه كُتب بلغة المستعمِر: اللغة الفرنسية. وهذا التناقض في قلب المشروع الأدبي لما بعد الاستعمار. فالفرنسية، التي فُرضت عبر المدرسة الكولونيالية، كانت أداة للهيمنة الرمزية، لكنها أصبحت لاحقاً، بيد هؤلاء الكتّاب، وسيلة لاستعادة الذات، وإعادة تشكيل المعنى، ومقاومة السيطرة. يُعد الشاعر والمفكر المارتينيكي إيمي سيزير من أبرز من جسّد هذا التحول.

أما سنغور، أول رئيس للسنغال بعد الاستقلال، فسلك طريقاً أكثر تناغماً. ففي قصائده، يحتفي بجمال السود، وحنين القرية، وانفتاح الثقافات. وكتب قائلاً: "نحن ثمرة زواج بين العقل اليوناني والعاطفة الزنجية"، في إشارة إلى رغبته في جعل الفرنسية جسراً نحو الكونية. أما فرانز فانون، فقد كان أكثر راديكالية. ففي "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" يكشف كيف أن اللغة الفرنسية تُدخل العقدة الاستعمارية إلى نفس المستعمَر. فالتكلم بالفرنسية يعني محاولة "التبييض" الرمزي. ولهذا؛ دعا فانون إلى تحرّر شامل، يبدأ من اللغة.

أدبٌ مشتبك مع التاريخ، مشغول بمعالجة آثاره وتبعاته

في المقابل، كتبت ماريز كوندي بلغة هجينة، تنساب فيها الفرنسية جنباً إلى جنب مع الكريول والسخرية وتعدّد الأصوات. في "أنا تيتوبا، الساحرة السوداء"، منحت كوندي صوتاً لعبدة سوداء منسية أُعدمت في أميركا، وحولت اللغة إلى أرشيف حيّ للمنسيين. فالفرنسية عندها ليست مرفوضة ولا مقدسة، بل مادة حية تُشكَّل على يد الكاتبة.

إعادة كتابة التاريخ

لا يمكن فصل أدب ما بعد الاستعمار عن مهمة استرجاع الذاكرة الجماعية. فقد سعى الكتّاب إلى فضح الصمت الذي فرضته السرديات الكولونيالية: صمت عن العبودية، عن المقاومة، عن الثقافات الأفريقية التي اختُزلت إلى فلكلور. من هنا، تحوّلت الكتابة إلى تاريخ مضاد، بل إلى ممارسة رمزية للعدالة. في "خطاب عن الاستعمار" (1950)، يدعو إيمي سيزير إلى عالم لا مركزي، تعدّدي، محرّر من الهيمنة الأوروبية. أما فانون، في "معذبو الأرض" (1961)، فيؤكد أنه لا يمكن التحرّر إلّا عبر العنف الثوري، فالأدب عند فانون ليس تأملياً، بل هو فعل تحرّري. وبالنسبة لكوندي، فهي تنأى عن الشعارات الكبرى، تهتم بما هو هامشي: بالنساء، بالمُهجَّنين، بالمُستعبَدين.

رغم عمقها وتجذّرها، لم تكن هذه الأدبيات خالية من العيوب أو القيود. فقد كُتبت غالباً على يد نخبة مثقفة، تكونت في الجامعات الفرنسية، وكانت في بعض الأحيان بعيدة عن واقع الشعوب الأفريقية اليومية. حتى إنّ بعض النقاد رأوا في مشروع "الزنوجة" الذي قاده سنغور وسيزير نوعاً من التكريس العكسي للصور النمطية: فالأسود عاطفي، روحي، شفهي، في مقابل الأبيض العقلاني، العلمي. وقد انتقد الكاتب النيجيري وول سوينكا هذه المقاربة بقوله الشهير: "النمر لا يعلن نُمورته، بل ينقضّ". في إشارة إلى رفضه للهوية المُعلَنة، مقابل الهوية التي تتجسّد بالفعل، كما أن هذا الأدب، في بداياته، ركّز في الغالب على "العدو الخارجي" - المستعمِر- وأغفل الانحرافات الداخلية لأنظمة ما بعد الاستقلال: من فساد، واستبداد، وإقصاء.

جاء لاحقاً كتّاب مثل سوني لابو تانسي، وأحمدو كوروما، وإيمانويل دونغالا، ليمارسوا نقداً ذاتياً قاسياً للواقع الأفريقي من الداخل، بأساليب تهكمية وسوداوية. إضافة إلى ذلك، فإن الهوس بالهوية العرقية، وإن كان ضرورياً في السياق الكولونيالي، أغفل تقاطعات أخرى: كالجندر، والطبقة، والجنس.


* كاتب من المغرب

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية