الواقع الذي وراء الواقع
عربي
منذ ساعتين
مشاركة

هل يختلف الواقع في الحياة، عن الواقع في الرواية؟ المفترض أن يختلف، فالكاتب لا يستعمل كاميرا، وليس مطلوباً منه نقل الواقع حرفياً، وإلّا لماذا الروائي والرواية؟ ثم ما قيمة ما يدّعيه الكثيرون عن العملية الإبداعية التي ترافق الشغل الروائي؟ 

العمل الروائي ممسوس بالخيال إلى حدّ أنه لا يمكن الفصل بين الواقع والخيال. المشاركة بينهما، تسمح بالقول إنّنا إزاء عمل روائي. لولا الخيال، ما كانت الرواية؛ ففي العناق بينهما وصفة لا يمكن التحكم بها، وتختلف عياراتها من رواية لرواية. للخيال وظيفة كبرى، ما هي وظيفته، أو دوره؟ 

نحن معتادون على النظر إلى الواقع، هذا الذي بمتناول البصر، يمكن لمسه، قياسه، تفسيره. مرتبط بنا وبالأحداث اليومية، بالمكان والزمان. هذا لا يزيد عن السطح، تحته طبقة داخلية، رخوة أو سائلة، ثابتة أو متبدلة، قابلة للتحوّلات، تحت ما نسميه "الواقع". هذه الطبقة لا يمكن بلوغها عبر الملاحظة المباشرة أو التحليل المنطقي، بل تتطلب اختراقاً من نوع آخر: اختراقاً عبر الخيال. ما نعرفه من الواقع هو القشرة، وتكمن أهمية الفنون قاطبة في اختراق هذه القشرة إلى ما يدعى بالواقع الذي وراء الواقع.

ما وراء الواقع، ليس الغيبي، ولا من منتجات الخيال البحتة... إنه الواقع في حقيقته العارية، الواقع الخفي والمتخفّي. لا يُرى بالعين المجرّدة وإنما بعين الخيال، ولا يُدرك بالأدوات التقليدية، لكنّه ليس وهماً ذاتياً، يصحّ وصفه بالحقيقة العميقة التي تساند الواقع الظاهر وتمنحه شكله ومعناه.

لا يغادر الخيال الواقع، بل يعيد اكتشافه، والنظر إليه من الداخل

يسهل الخلط بين "الواقع الأعمق" والغيب، لأن كليهما لا يُرى. لكن ثمة فرق جوهري: الغيب هو ما يُؤمن به دون تجربة مباشرة، أما الواقع الذي وراء الواقع، فهو مُتاح شريطة تغيير الأدوات لإدراكه. ليس الحديث عن كشف صوفي أو وحي ديني، بل عن إعادة تدريب للذهن والنظر، لتجاوز المألوف والوصول إلى البنية الحقيقية التي يقوم عليها الظاهر، ويمكن في هذا المنحى الإشارة إلى مقولة لفرانز كافكا: "علينا أن نحفر عميقاً بما فيه الكفاية، لأن الحقيقة لا تهوى السطح".

بل ويعتبر الخيال أهم من المعرفة حسب أينشتاين؛ لأن المعرفة محدودة "أما الخيال فيطوف العالم"، لم يهرب أينشتاين من الواقع، بل اخترقه بعين الخيال العلمي. 

غالباً ما يُفهم الخيال على أنه نقيض الواقع، أو على الأقل بوصفه شيئاً يُضفي عليه البريق والألق، والجمال وربما الرعب. في هذا السياق، الخيال ليس لعبة ذهنية أو ذريعة للهروب، بل أداة كشف. إنه العدسة التي يُمكن عبرها النفاذ من قشرة الواقع، قد تكون إلى العدم أو الحلم، لكن بالدرجة الأولى إلى "الواقع الحقيقي"، هناك تكمن نزعاتنا الغريبة، نزواتنا، أخطاؤنا، جرائمنا، عقدنا النفسية، تساؤلاتنا المؤلمة، الشك الرهيب، حيرتنا الكونية... كما هي، محرّرة من الالتباس. وإلّا كيف يستطيع الكاتب التجول في سرائر أبطاله، إن لم يخترقها بالخيال؟

هل هذا ضرب من المفارقة، أن يكون الخيال، الذي يفترض به أن يكون غير واقعي، هو الطريق إلى الواقع الحقيقي؟ الجواب يكمن في فهم طبيعة "الخيال" نفسه. فالخيال ليس مجرد تصوّرات عشوائية، بل قدرة الكاتب على تخيّل الممكن. إنه الأداة التي يتصور العقل من خلالها ما يتجاوز التجربة المباشرة من دون التخلي عنها، فهو لا يغادر الواقع، بل يعيد اكتشافه، والنظر إليه من الداخل، ويرى فيه ما لا يُرى، ويدرك أنه لم يقبض على الحقيقة، وإنما يتلمّس بداياتها.

 

* روائي من سورية

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية