حين يتحوّل غياب الاعتراف إلى عزلة
عربي
منذ 3 ساعات
مشاركة

لكل مجتمع ديناميكيته الخاصة؛ فبينما يختار بعض أفراده الصمت، يفضل آخرون رفع أصواتهم ليُسمعوا. لكن ثمة فئة ثالثة تعيش في هوة عميقة من الفراغ الوجودي، بلا ماضٍ تستند إليه، ولا حاضرٍ تنعم به، ولا مستقبلٍ يمكنها أن ترنو إليه. هؤلاء ليسوا مجرد مهمّشين اجتماعيًا، بل هم أفراد فقدوا بوصلتهم الوجودية، يصارعون أزمة داخلية عميقة غالبًا ما تمر دون أن تُروى، لكن آثارها تتجلى في سلوكياتهم، ولغتهم، ونظرتهم لذواتهم وللآخرين.

ليست المشكلة في الفقر، فالفقر وإن كان قاسيًا، يمكن تجاوزه. تكمن المأساة الحقيقية في الإنسان الذي لا يملك ماضيًا يشد من أزره، ولا حاضرًا يعبر عنه، ولا مستقبلًا ينتظره. عندما يشعر المرء بأنه بلا أثر، بلا توقيع في سجلات التاريخ، ولا بصمة في دفاتر الحاضر، تبدأ صرخته الخفية أو المعلنة، ليس فقط ليُسمع، بل ليؤكد وجوده: "أنا هنا.. التفتوا إليّ، احترموني".

يبدأ الأمر غالبًا بشعور داخلي مدمر بانعدام القيمة، شعور لا يدمر الصورة الذاتية فحسب، بل يمزق التماسك النفسي للفرد. عندما يفقد الإنسان الإحساس بمعنى وجوده، يتحول إلى كتلة من القلق والاضطراب، يبحث عن أي وسيلة لإعادة تأكيد ذاته، حتى لو كانت تلك الوسيلة مجرد افتعال للضجيج أو الدخول في صدامات غير مبررة.

في هذا السياق، لا يكتفي بعضهم بمجرد الظهور المبالغ فيه أو الكلام الكثيف، بل يتجاوزون ذلك إلى مهاجمة أصحاب الإنجازات والتاريخ، ومحاولة تشويه سمعتهم، والتشكيك في دوافعهم، وقد يصل الأمر إلى تخوينهم. هذا السلوك لا ينبع من نقد واعٍ وصادق، بل من أزمة عميقة في المعنى، وشعور دفين بأنهم غير مرئيين، وغير محسوبين، ولا يُؤخذ وجودهم على محمل الجد. هنا، تتحول المعركة من صراع مع الذات إلى حرب شاملة ضد كل من يحظى بقيمة أو مكانة في المجتمع.

تكمن المأساة الحقيقية في الإنسان الذي لا يملك ماضياً يشد من أزره، ولا حاضراً يعبر عنه، ولا مستقبلاً ينتظره. عندما يشعر المرء بأنه بلا أثر، تبدأ صرخته الخفية.

الأخطر من ذلك هو حال من لم يكن شيئًا من الأساس — بلا تاريخ، بلا أثر، بلا موقف — ثم يحاول إقناع نفسه بأنه شيء ذو قيمة. يغرق هذا الفرد في الوهم، ويعيش على فتات الاعتراف المصطنع، ينسج حول نفسه بطولات وهمية أو مواقف متخيلة، فقط كي لا ينهار أمام ذاته. وعندما يفشل في إقناع الآخرين بوهْم وجوده، يتحول إلى شخص ناقم، غاضب، لا يرى في المجتمع سوى مصدر لإلغائه، ولا يرى في نجاح الآخرين سوى إهانة شخصية له.

هذه الأزمة لا تنشأ من فراغ؛ فكثيرًا ما تتكون من نظرة متعالية يحملها بعض الأفراد تجاه مجتمعهم. يرى الواحد منهم نفسه مثقفًا فذًا، مختلفًا جوهريًا، أذكى من الآخرين، وأكثر وعيًا وعمقًا. ينظر إلى محيطه ككتلة من "الرعاع" أو الجهلة أو المقلدين، ويُغلّف شعوره بالعجز أو العزلة بادعاء النخبوية والتفوق. غير أن الواقع لا يمنحه ما يتصوره عن ذاته. بل إن المجتمع، بدلاً من أن يمنحه الاعتراف أو المساحة، يعاقبه بالتجاهل، ويتركه في عزلة ثقيلة لا ينفذ منها ضوء.

هنا لا يصطدم الإنسان بالمجتمع فحسب، بل بنفسه أيضًا. يكتشف أن ما كان يظنه تميزًا ليس إلا وهمًا هشًا، وأن الرفض الاجتماعي الذي يواجهه ليس مؤامرة أو جهلًا جماعيًا، بل مجرد رد فعل طبيعي على شخص ينغلق على نفسه، ويرفض أن يرى الآخرين شركاء في الوجود أو الحوار. يجد نفسه، شيئًا فشيئًا، خارج السياق، لا يُسأل عن رأيه.

مع مرور الوقت، يتحول هذا الإقصاء الاجتماعي إلى عزلة خانقة. يغدو الإنسان أسيرًا لأفكاره، غاضبًا من العالم، ناقمًا على كل من حوله، يُفرغ مشاعره بالكلمات الجارحة، والتهكم، والتخوين، ظنًا أن الصوت العالي قد يُعيد له ما فقده من حضور أو اعتبار. لكنه لا يزيد إلا بُعدًا عن الناس، وعجزًا عن فهم لماذا لم يعد يُرى.

الاعتراف، كما يصفه الفلاسفة، ليس مجرد تصفيق، بل هو تأكيد رمزي على أن وجودك يحمل معنى. أن تكون مرئيًا لا لأنك تصرخ، بل لأنك موجود حقًا، ومعترف بك ككائن ذي كرامة وتجربة فريدة.

ففي النهاية، الإنسان الذي يشعر بأن لا أحد يراه، يُمضي عمره كله يلوّح بيده في الفراغ، صارخًا: "احترموني.. أنا هنا". والكارثة ليست في صراخه، بل في صمت الذين حوله.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية