
كتاب الأكاديمية والكاتبة المصرية شيرين أبو النجا "رحم العالم. أمومة عابرة للحدود" (تنمية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2025)، بحثٌ في تعريف الأمومة ومحاولةٌ لكتابتها. وفي مسعى الكاتبة إلى صياغة هذا التعريف، يلتقط القارئ مسعىً آخر، هو تحرير الأمومة من التعريفات التي تهيمن على النساء وتأسرهنّ في دورٍ نمطيٍّ صنعه المجتمع الذكوري برجاله ونسائه، فالكتاب يكشف الثقافة المجتمعية التي تقدّس دور الأم، مع ما ينطوي عليه هذا التقديس من تقييدٍ للنساء وتحديدٍ لأدوارهنّ.
لا حاجة إلى التنويه بأنه كتابٌ نسويّ في الأساس، فالطرح الأساسي يعرض الأمومة بوصفها سؤالاً، وهو طرحٌ غير مألوف عربياً، والكتاب يخدش صورة الأمومة باعتبارها مفهوماً مؤسّساتياً، وفي مواقع كثيرة يدينها. ومع ذلك، لا تعترض الباحثة المصرية على الأمومة، بل تعترض على احتكار النساء في دور الأمومة، التي لا تحدث من غير زواج في مجتمعاتنا، إذ لا يُعترف بالمرأة خارج دورها أمّاً وزوجةً.
الكتاب مبنيٌّ على وجوه معاناة، معظمها يحدث في الفضاء المكتوم لعالم النساء، كما تستعير الناقدة المصرية من الأدب العربي أمثلة على طرحها، أو تعرض دلائل من عالم الأدب لنماذج أدبية تحرّرت، خطوةً مقارنةً بالمجتمعات. وما يعرضه الكتاب بوصفه قراءةً أدبية في الأمومة، إنما هو قراءة اجتماعية وواقعية تسعى إلى تحرير الأمومة من الصور النمطية، وتطمح إلى أن تقترب من جوهرها، باعتبارها خلقاً وحياة، وباعتبارها تجربةً فردية، لا مؤسّساتية. وتعرض أبو النجا هذا ضمن رؤية نقدية تطاول التصوّرات المفروضة على المرأة، وتتناول الأمومة بصفتها بنيةً للعائلة في تعريفاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
خدش صورة الأمومة باعتبارها مفهوماً مؤسساتياً وإدانتها أحياناً
وتشبك دراستها النقدية مع دراسات غربية سبقتها، بطبيعة الحال، ولاعتباراتٍ تتعلّق بمقولات الكتاب الجذرية، فهو يُمثّل قطيعةً مع بعض السرديات العربية حيال دور الأمّ، ووظيفتها وتعريفها، بل ومجال ونوعية تفاعلها العام، في مسعىً نظري لتقديم رؤية نقدية تقول ما مفاده: إنّ رحلة الأمومة ليست تجربة بيولوجية أو غريزية فحسب، بل هي أيضاً تجربة فكرية، ولغوية، وأدبية. وبهذا؛ فإنّ الكتاب، في جوهره، محاولةٌ لانتزاع الأمّ من القداسة المؤسّساتية، وإعادتها إلى موضعٍ يمكن النظر فيه إليها بوصفها ذاتاً.
في هذا السياق، تعرض الناقدة المصرية عدداً من النصوص التي تُهمِلها الثقافة السائدة، التي تسمح وتعترف بنوعٍ واحدٍ من الأمومة، فتقابل أبو النجا النصوص العربية بنصوصٍ من ثقافاتٍ متعددة. وفي جهدها المقارن هذا، تُخلخل التقسيم القطعي بين الشرق والغرب، وتطعن فيه، ليأخذ "عبور الحدود" في العنوان الفرعي للكتاب ذلك البُعد المقارن بين الثقافات، بما فيه من كشفٍ للزيف بين الشمال والجنوب، وغيرها من الثنائيات التي نبتت أساساً من ثنائية المستعمِر والمستعمَر. تُجاور أبو النجا نصّاً بآخر، وتبني حواراً بينهما، لتخلص إلى ما يجعل العالم أكثر رحابةً، ولو في الإطار النظري؛ إذ تعرض تصوراً نقدياً وإنسانياً، يرفض أن تكون مسائل العاطفة كما لو أنها نوعٌ من الرق.
ينقسم الكتاب إلى 14 فصلاً، وتتنوّع النماذج بين كاتباتٍ وكُتّابٍ مثل سيمون دو بوفوار، وفاطمة المرنيسي، وسيلفيا بلاث، وإيمان مرسال، وتوني موريسون، وفيليب روث، ويحيى حقي، وغيرهم. ومع عقد هذه المقارنات، يحدث تفكيكٌ للصور النمطية التي رسّختها السلطة الأبوية في تصوير الأم، فتظهر الأمّ في النصوص الغربية غالباً بصفتها ذاتاً مركّبة، لها صوت وخيارات وشخصية، بينما تُصوَّر في النصوص العربية كوظيفةٍ مرتبطة بالتضحية أو الإخفاق، وتُعامل على نحوٍ رمزيٍّ يفقدها فردانيتها؛ فالمرأة العربية رمزٌ لشيء آخر، إمّا لوطن أو لأرض.
في رواية توني موريسون "محبوبة"، تذبح الأم ابنتها كي لا تُستَعبَد. في حين، نرى في عددٍ من القصص والشهادات غير الروائية، الأمَّ العربية ملتزمةً بصورة البطولة، إذ الأمّ دائماً مضحية، دائماً مذبوحة على نحوٍ ما. كذلك، تظهر المرأة العربية في علاقتها مع الأمّ إمّا أنّها امتداد لها، أو انفصالٌ عنها، في ثنائيةٍ بسيطة لا يتوفر فيها غير القبول أو الرفض، أما العلاقة في النصّ الغربي، كما في نصوص آن سيكستون، فهي علاقة إنسانية مركبة. وبالصورة نفسها، تظهر العلاقة بين الأمّ وابنتها في الغرب، كما في نصوص مارغريت آتوود، علاقةً متبادلة، فيما تظهر لدى رضوى عاشور تملّكاً، وعلاقةً باتجاهٍ واحد، إذ ترث البنتُ أمَّها، ولا يتخلّل هذه العلاقة أي شكلٍ من أشكال الصراع، إنما تكون شكلاً من أشكال التوريث.
كما تشير الكاتبة إلى الاستقلال الشخصي للمرأة في التعبير السياسي في النص الغربي، في حين تُختزل الأمّ العربية في صورٍ مثالية. وعلى هذا النحو، تظهر الأم العربية أيقونةً في "أم سعد" لغسان كنفاني، ورمزاً جماعياً للفداء.
لدى سوزان سونتاج، يكون الهروب من الأمومة خياراً حرّاً، بينما في النص العربي، يُمثّل الهروب من الأمومة عاراً وإدانةً أخلاقية. في نص كوليت، تُهزَم الأم من غير أن تتسبّب هزيمتها في إلغائها، في حين تتسبّب هزيمة الأم العربية بنوعٍ من الإقصاء الوجودي. كذلك، فإن غياب الأمّ في نصوص أليس مونرو غيابٌ وظيفي له دلالة في السرد، في مقابل أن غياب المرأة عربياً يكون تهميشاً لها، وشكلاً من أشكال عدم الاعتراف.
في معظم ما ورد في الكتاب، يظهر تحليل مشاعر الأمومة أمراً متاحاً في الثقافة الغربية، بينما يبدو في الثقافة العربية مساساً بقداسة. ويمنح الكتاب، عبر القراءة المقارنة بين الثقافتَين، أدواتٍ لفهم أن الأمومة سردية قابلة للكتابة، والنقد، والتغيير. بهذا المعنى؛ فإن الكتاب عملٌ في دراسات الجندر والنقد الثقافي العربي، عملٌ يُحفّز على إعادة قراءة الأمّ من جديد، وكتابتها لا بوصفها ملاكاً، بل بصفتها إنساناً له صوتٌ وتجربة، وللأمّ الحقُّ في أن تُروى وتُكتب، باعتبارات الكتابة، بما فيها من تدنيسٍ أو تقديس.
* روائي من سورية

أخبار ذات صلة.
