
بعد مرور أكثر من عقدين على تقاعد طائرة الكونكورد الشهيرة، يعود حلم السفر الأسرع من الصوت إلى الواجهة من جديد، وهذه المرة من خلال شركة ناشئة وطموح تُدعى "بوم سوبرسونيك"، أسسها مهندس البرمجيات السابق في أمازون، بليك شول. ويهدف المشروع إلى تقليص مدة الرحلات العابرة للمحيط الأطلسي إلى النصف، وجعلها في متناول رجال الأعمال والمسافرين الراغبين في كسب الوقت.
في عام 2003، ودّع العالم طائرة الكونكورد، أسرع طائرة تجارية في التاريخ، بعد حادث تحطم مأساوي في باريس، ومشكلات تشغيلية واقتصادية، مما بدا حينها وكأنه نهاية حقبة الطيران فائق السرعة. ولكن بالنسبة لشول، البالغ من العمر 44 عامًا، لم يكن ذلك نهاية الحلم، بل بداية مهمة جديدة لإعادة إحياء السفر الأسرع من الصوت، هذه المرة بشكل أكثر كفاءة وربحية.
ويؤكد شول أن التكنولوجيا اللازمة لتحقيق الطيران الأسرع من الصوت كانت متاحة طوال الوقت. لكونه محباً للطيران علم نفسه بنفسه، غالبًا ما يتجادل شول مع النقّاد على وسائل التواصل الاجتماعي، متنقلًا بين السخرية والردود العلمية في دفاعه. فمثلًا، ردّ على أحد المنتقدين في منصة " أكس" قائلًا: "أتمنى لو أنني فكرت في ذلك قبل أن أبدأ الشركة"، عندما أشار المنتقد إلى أن الكونكورد كانت باهظة التكلفة في التشغيل.
منذ تأسيس شركته "بوم سوبرسونيك" عام 2014، كرّس شول حياته لتصميم طائرة ركاب جديدة تُدعى "أوفرتشر" وبنائها، وهي قادرة على نقل نحو 75 راكبًا بسرعة تصل إلى 1.7 ماخ (ما يعادل 2100 كلم/س). ووفقًا للخطة، فإن الطائرة ستبدأ اختباراتها بحلول عام 2027، على أن تدخل الخدمة التجارية بحلول 2029.
ورغم التحديات المالية الكبيرة، تمكنت "بوم" من جذب اهتمام عدد من شركات الطيران الكبرى. فقد أعلنت يونايتد إيرلاينز وأميركان إيرلاينز والخطوط الجوية اليابانية عن طلبات أولية لشراء طائرات "أوفرتشر"، بينما استثمرت شركات تقنية ومؤسسات تمويل مثل "واي كومبينيتور"، كما يشارك في مجلس إدارة الشركة الرئيس التنفيذي السابق لشركة بوينغ، فيل كونديت.
وبحسب صحيفة "وول ستريت" واجهت "بوم" مؤخرًا صعوبات في جمع الأموال. فبعدما كانت الشركة تقدر قيمتها بحوالي مليار دولار، انخفضت إلى نحو 500 مليون دولار نهاية العام الماضي، وقامت بتخفيض أهدافها في التمويل. في الخريف الماضي، استغنت عن نحو نصف موظفيها البالغ عددهم 260. وفي العام الماضي، أنهت "بوم" بناء مصنعها الجديد في مدينة غرينسبورو بولاية كارولاينا الشمالية، حيث بدأت تصنيع نموذج أولي لمحرك طائرة "أوفرتشر"، بعد انسحاب شركة رولز رويس من المشروع، واختارت الشركة تطوير محركها داخليًا، في خطوة محفوفة بالمخاطر، لكنها قد تفتح الباب أمام ابتكار تقنيات جديدة ومستقلة.
والطائرة مصممة باستخدام ألياف الكربون المركبة، وتستخدم أدوات محاكاة رقمية متقدمة لتصميم الهيكل الديناميكي، مما يوفر وزنًا أقل وكفاءة أكبر مقارنة بتقنيات الكونكورد القديمة. وتقول الشركة إن المقصورة ستكون مريحة وفسيحة، على عكس مقصورة الكونكورد الضيقة، مع خدمات بمستوى درجة رجال الأعمال.
ووقّع الرئيس ترامب، يوم الجمعة، أمرًا تنفيذيًا يوجه فيه إدارة الطيران الفيدرالية بإلغاء حظر استمر 50 عامًا على الطيران الأسرع من الصوت فوق الأراضي الأميركية. وبينما كانت تذكرة الكونكورد ذهابًا وإيابًا تكلف أكثر من 10,000 دولار في التسعينيات، تقول "بوم" إنها ستخفض كلفة المقعد في طائرة "أوفرتشر" إلى ما يعادل سعر درجة رجال الأعمال العادية، أي حوالي 1,700 دولار للاتجاه الواحد بين نيويورك ولندن، لكن تحديد الأسعار يعود إلى شركات الطيران.
وتقول الشركة إن التصميم الداخلي لطائراتها سيتضمن وسائل راحة ومساحة بدرجة رجال الأعمال، خلافًا للكونكورد التي كانت معروفة بالسرعة — والبرودة — أكثر من الراحة. حيث فكرة الكونكورد رائجة في الستينيات، حين تم تصميمها وبناؤها بموجب معاهدة فرنسية-بريطانية. لكن استهلاكها الكبير للوقود أصبح عبئًا عندما ظهرت في السبعينيات، بعد صدمة نفطية رفعت أسعار الوقود وزادت المخاوف البيئية، بحسب "وول ستريت".
وفي يناير/كانون الثاني الماضي، أجرت "بوم" أول اختبار ناجح لطائرتها التجريبية XB-1، ذات المقعد الواحد، والتي حلّقت بسرعة تفوق سرعة الصوت فوق صحراء موهافي في كاليفورنيا. وصممت "بوم" طائرتها باستخدام مواد مركبة من ألياف الكربون، لم تكن مستخدمة على نطاق واسع حين تم تطوير الكونكورد. كما استخدم المهندسون محاكاة رقمية بدلًا من نفق هوائي مادي لتشكيل التصميم الديناميكي للطائرة. وتتميز طائرة "أوفرتشر" بتصميم مقدمة يشبه الكونكورد، وتستخدم كاميرات خارجية لتمكين الطيارين من الرؤية.
حتى الآن، جمعت الشركة حوالي 600 مليون دولار، وتأمل في جمع ما بين مليار إلى ملياري دولار إضافية لتبدأ الإنتاج التجاري. ويؤكد شول أن التقدم الحاصل في المواد والتقنيات الرقمية يجعل من المشروع أكثر واقعية من أي وقت مضى. وبينما ينتظر العالم أول إقلاع تجاري لطائرة "أوفرتشر"، تبقى الأسئلة حول الضوضاء، والتكلفة، والطلب، مطروحة.
