
في نهاية شهر مايو/أيار، أرسلت إدارة الرئيس دونالد ترامب لأول مرة مقترحاً مكتوباً لشكل الاتفاق النووي الذي تريده واشنطن. قدّم المقترح ستيف ويتكوف، مبعوث ترامب الخاص إلى الشرق الأوسط ورئيس الفريق المفاوض الأمريكي، إلى سلطنة عُمان، الوسيط بين طهران وواشنطن، لإرساله إلى إيران.
منذ ذلك الحين، لم تهدأ التكهنات بشأن محتوى المقترح الأمريكي، خاصة بعد خطاب وصف بأنه “حادّ اللهجة” من المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، جاء في ذكرى وفاة مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران، روح الله الخميني، الأربعاء 4 يونيو/حزيران، انتقد فيه بشدة المقترح الأمريكي، مشدداً على الخطوط الحمراء للجمهورية الإسلامية وحقها الأصيل في تخصيب اليورانيوم.
جاءت هذه الكلمة القوية من خامنئي لتثير التساؤلات حول طبيعة هذا الرد الحاد من رأس السلطة في إيران، وما إذا كانت المفاوضات مع الولايات المتحدة وصلت إلى طريق مسدود أو تعاني أزمة كبيرة تحول دون إتمامها.
التخصيب لفترة مؤقتة
وصفت مصادر دبلوماسية إيرانية مطلعة لـ”عربي بوست” المقترح الأمريكي المُرسل إلى إيران بـ”الغامض”، كما أن مسألة حق إيران في تخصيب اليورانيوم التي تضمنها المقترح لم تلقَ أي قبول لدى القادة الإيرانيين.
وفي هذا الصدد، يقول دبلوماسي إيراني مقرّب من الفريق المفاوض الإيراني لـ”عربي بوست”: تقترح واشنطن في هذا المقترح أن تقوم إيران بتخصيب اليورانيوم عند مستويات أقل من المنصوص عليها في الاتفاق النووي لعام 2015، بشكل مؤقت، ومن ثم يُمنع على طهران التخصيب نهائياً.
وبحسب المصدر ذاته، فإن واشنطن طرحت في مقترحها أن تقوم طهران بتخصيب اليورانيوم عند مستوى 2%، وكان الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 يسمح لإيران بتخصيب اليورانيوم عند 3.67%. لكن بعد أن قام دونالد ترامب خلال ولايته الأولى بالانسحاب من الاتفاق النووي لعام 2015، أو ما يُعرف بخطة العمل الشاملة المشتركة، في مايو/أيار 2018، قامت إيران بزيادة نسب تخصيبها لليورانيوم إلى أن وصلت إلى أكثر من 60%، وهي درجة نقاء قريبة من الدرجة المطلوبة لصنع سلاح نووي.
كما جاء في تفاصيل المقترح الأمريكي المقدَّم لطهران أن تكون فترة تخصيب اليورانيوم المنخفضة مؤقتة، لمدة تمتد إلى عام أو عامين، وفي هذه الأثناء سيتم إنشاء محطات نووية جديدة لإيران، وتأسيس تحالف إقليمي مشترك لتخصيب اليورانيوم خارج الأراضي الإيرانية، إلى أن تحصل طهران على الوقود النووي بإشراف دولي.
في هذا السياق، يقول مصدر سياسي إيراني مقرّب من دوائر صنع القرار في طهران، ولديه اطّلاع واسع على الأمر: واشنطن تريد بناء محطات نووية جديدة لإيران مع إغلاق أبرز المنشآت الإيرانية (نطنز وفوردو)، وأن تنضم إيران إلى التحالف الإقليمي الذي سوف يضم الولايات المتحدة والسعودية والإمارات وسلطنة عُمان، لتخصيب اليورانيوم، والذي سيكون تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بالإضافة إلى الولايات المتحدة.

وأضاف لـ”عربي بوست” أنه فور الانتهاء من بناء المحطات النووية الجديدة وتأسيس التحالف الإقليمي لتخصيب اليورانيوم، سيكون على طهران إيقاف تخصيب اليورانيوم تماماً داخل الأراضي الإيرانية.
وجدير بالذكر أن فكرة إنشاء تحالف إقليمي لتخصيب اليورانيوم قدّمها وزير الخارجية الإيراني ورئيس الوفد الإيراني المفاوض، عباس عراقجي، إلى ستيف ويتكوف في الجولة الثالثة من المفاوضات غير المباشرة بين طهران وواشنطن، بحسب المصادر الإيرانية التي تحدثت لـ”عربي بوست”.
وتقول المصادر الإيرانية المطلعة إن إيران اقترحت فكرة إنشاء “كونسورتيوم” إقليمي لتخصيب اليورانيوم كخطوة لإثبات حسن النية الإيرانية.
ويعلق مسؤول حكومي مقرّب من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان على فكرة الاتحاد الإقليمي، قائلاً لـ”عربي بوست”: عندما اقترحت إيران هذه الفكرة، كانت تهدف إلى أن تثبت للجميع سلمية برنامجها النووي، وبمشاركة أطراف إقليمية، سيكون تخصيب اليورانيوم الإيراني تحت أنظار الجميع، وداخل الأراضي الإيرانية، وبإشراف كامل من الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وأضاف: “كما اقترح عراقجي أن تمتلك إيران النسبة الأكبر في هذا الاتحاد، وعندما طلب ويتكوف مشاركة واشنطن، وافقت طهران على أن تمتلك الولايات المتحدة أقل نسبة من المشاركة في هذا الاتحاد”.
وأضاف المصدر ذاته قائلاً لـ”عربي بوست”: “لكن ما اقترحته واشنطن في المقترح الأخير، فيما يتعلق بمسألة الاتحاد الإقليمي لتخصيب اليورانيوم، يتعارض مع الخطوط الحمراء الإيرانية، وهي: التمسك بتخصيب اليورانيوم على الأراضي الإيرانية، وأن تكون الولايات المتحدة شريكاً بنسبة ضئيلة، ولا يمكن لها المشاركة في عمليات التفتيش، التي ستكون حصراً للوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة”.
تهدف الولايات المتحدة من خلال إنشاء الاتحاد الإقليمي لتخصيب اليورانيوم، إلى السماح لإيران بإنتاج وقود نووي بنسبة منخفضة فقط تكفي لمحطات الطاقة النووية، وضمان عدم قيام إيران بتخصيب اليورانيوم بمفردها بنسب عالية لصنع قنبلة نووية.
هل ستوافق طهران؟
بحسب حديث المصادر الإيرانية المطلعة لـ”عربي بوست”، فإن المقترح الأمريكي يمنح طهران حق تخصيب اليورانيوم بنسبة 2% لفترة قصيرة، ومن ثم يتم وقف جميع أنشطة التخصيب داخل الأراضي الإيرانية، مع غلق أكبر المنشآت النووية الإيرانية، على أن تحصل طهران على الوقود النووي للمحطات الجديدة التي سيتم تأسيسها بإشراف أمريكي، لوضعها تحت السيطرة والرقابة الكاملة من خلال الاتحاد الإقليمي لتخصيب اليورانيوم بنسب منخفضة أيضاً.
بالإضافة إلى ذلك، أشارت المصادر الإيرانية إلى أن واشنطن اقترحت أيضاً تفكيك جميع أجهزة الطرد المركزي الحديثة المستخدمة في تخصيب اليورانيوم، مع إبعاد كميات اليورانيوم المخصّب بنسب عالية خارج الأراضي الإيرانية، وتم اقتراح روسيا على سبيل المثال.
لكن في 4 يونيو/حزيران، وخلال إحياء ذكرى وفاة الخميني، مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران، قال خامنئي أمام القادة العسكريين والسياسيين: “ردّنا على هراء الحكومة الأمريكية معروف، إن تخصيب اليورانيوم قضية رئيسية وأساسية في الصناعة النووية الإيرانية، وقد وضع العدو إصبعه عليها”.
وأضاف: “إذا كان لدينا مائة محطة للطاقة النووية ولكن لا يوجد تخصيب، فلن يكون ذلك مفيداً لنا. نقول للجانب الأمريكي: ماذا تفعلون؟ لماذا تتدخلون في تخصيب إيران لليورانيوم؟ ما شأنكم؟”.
وكانت إيران قد أبلغت الولايات المتحدة مراراً وتكراراً أنه لا يمكنها التنازل عن حقها في تخصيب اليورانيوم، وأنها مستعدة لتقديم كافة الضمانات للولايات المتحدة والغرب بأنها لا تنوي امتلاك سلاح نووي.
بعد حديث خامنئي الحاد، سارعت التكهنات بالقول إن خطابه كان بمثابة رفض صريح للمقترح الأمريكي. لكن، هل رفض خامنئي فعلياً الاقتراح الأمريكي كما زعمت بعض التقارير الإعلامية؟
يُجيب عن هذا التساؤل محلل سياسي مقرّب من مكتب خامنئي، قائلاً لـ”عربي بوست”: “أساء الكثيرون تفسير كلام خامنئي، ولكن هذا التفسير مضلّل ويشوبه الكثير من الجهل. خامنئي لم يرفض ولم يُغلق الباب أمام الدبلوماسية مع واشنطن”.
وأضاف المصدر ذاته قائلاً: “ما فعله خامنئي طبيعي، وقد فعله سابقاً أثناء المفاوضات التي سبقت الاتفاق النووي لعام 2015، لكنه أكد فقط على الخطوط الحمراء لإيران، كما أكد لمعارضي التفاوض مع واشنطن في الداخل أن إيران لن تقدم مثل هذه التنازلات النووية للولايات المتحدة، ولن تتخلى عن مليارات الدولارات التي أنفقتها على بناء منشآتها النووية”.

وأكد الحديث ذاته عباس غلامي، خبير السياسة الخارجية والمقرّب من الحرس الثوري الإيراني، قائلاً لـ”عربي بوست”: “لم يرفض خامنئي المفاوضات مع واشنطن، وحديثه لم يكن إعلاناً لرفض المقترح الأمريكي كما زعم البعض، بل كان تأكيداً على المبادئ الأساسية للجمهورية الإسلامية في التفاوض مع الأمريكيين. القيادة الإيرانية تريد استكمال مسار الدبلوماسية، وتسعى لإنجاح المفاوضات”.
ووصف المسؤول الحكومي المقرّب من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان مدى رغبة القيادة الإيرانية في إنجاز صفقة نووية مع واشنطن بأنها “أكثر من أي وقت مضى”، قائلاً لـ”عربي بوست”: “خامنئي يعلم جيداً أن إنقاذ البلاد من مشاكلها الاقتصادية لن يتم إلا عبر اتفاق مع الأمريكيين، لذلك فهو يرغب في التوصل إلى صفقة نووية مع إدارة ترامب، ولكنه في الوقت نفسه يريد ضمان عدم انتهاك واشنطن لهذه الصفقة مستقبلاً، وضمان حقوق إيران في التخصيب، ورفع العقوبات”.
بماذا سترد طهران؟
أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، إسماعيل بقائي، أن طهران لن تتعجّل في الرد على المقترح الأمريكي، وأنها ستصوغ ردها بما يتناسب مع حقوق ومصالح الشعب الإيراني، وهو ما أكده أيضاً كبير الدبلوماسيين الإيرانيين عباس عراقجي.
وصفت المصادر الإيرانية المطلعة التي تحدثت لـ”عربي بوست” بعض الخطوط العريضة التي ستكون من ضمن الرد الإيراني المرتقب على المقترح الأمريكي.
يقول دبلوماسي إيراني مقرّب من فريق التفاوض لـ”عربي بوست”: “إيران، في ردها على الولايات المتحدة، تتمسك بحقها في تخصيب اليورانيوم حتى ولو بنسبة قليلة، كما وافقت على فكرة إنشاء تحالف إقليمي لتخصيب اليورانيوم، وتتمسك بأن يكون هذا الاتحاد على الأراضي الإيرانية، في إحدى الجزر الإيرانية القريبة من دول الخليج”.
وأضاف المصدر ذاته قائلاً لـ”عربي بوست”: “كما أن القيادة الإيرانية سترفض تماماً فكرة إغلاق المنشآت النووية الإيرانية الأساسية، ولن تقبل أن تساعد واشنطن في بناء محطات طاقة نووية للإيرانيين. لدينا مئات العلماء النوويين، ولن نتخلى عنهم بهذه السهولة ونتركهم عاطلين”.
وقال المحلل السياسي المقرّب من مكتب خامنئي لـ”عربي بوست”: “القيادة الإيرانية تعلم جيداً أنها لو تخلت عن حقها في تخصيب اليورانيوم واعتمدت على شراء الوقود النووي من الغرب، فإنها لن تحصل على شيء. في الماضي، رفضت أوروبا إمداد إيران بالوقود النووي لتشغيل محطات الطاقة النووية. فكيف، بعد أن وصلنا إلى هذه المستويات من التخصيب، نتخلى عنها؟ هذا تنازل كبير لن يستطيع خامنئي ولا بزشكيان تسويقه في الداخل الإيراني”.
وأكد المصدر ذاته أن القيادة الإيرانية ترى أن حق طهران في تخصيب اليورانيوم هو أقوى ورقة تمتلكها في المفاوضات مع واشنطن، قائلاً لـ”عربي بوست”: “تخصيب اليورانيوم ليس فقط مسألة وطنية أو سيادة واستقلال، بل هو ما يضمن لإيران الحصول على التنازلات الأمريكية في عملية التفاوض هذه”.
وأشارت المصادر التي تحدثت لـ”عربي بوست” إلى أن المقترح الأمريكي لم يتناول بشكل جيد مسألة رفع أو تخفيف العقوبات عن إيران.
وقال المسؤول الحكومي المقرّب من مسعود بزشكيان لـ”عربي بوست”: “مسألة العقوبات قضية هامة بالنسبة للحكومة الإيرانية، فالعقوبات الظالمة المفروضة علينا هي السبب الذي دفعنا للتفاوض مع الأمريكيين، ولابد من حصول إيران على ضمانات برفع هذه العقوبات”.
وأضاف المصدر الحكومي قائلاً: “هناك مئات العقوبات التي فرضتها واشنطن على طهران منذ انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، ويجب التفاوض على كيفية رفع بعضها وتعليق البعض الآخر، وخاصة العقوبات الثانوية التي تعرقل الاستثمار الأجنبي في إيران، وليس فقط الاكتفاء برفع الحظر عن بعض أموال إيران المجمدة في الدول الأخرى”.
وتوقعت المصادر السابق ذكرها، أن توافق طهران على استكمال المفاوضات ويتم تحديد موعد الجولة السادسة من المفاوضات الغير مباشرة بين طهران وواشنطن، واستبعد المصدر الدبلوماسي الإيراني فكرة رفض إيران لإستكمال المفاوضات في الوقت الحالي، قائلا لـ”عربي بوست”، “لن تسير الأمور هكذا، سنرسل ردنا إلى واشنطن وسيكون من الضروري عقد جلسة أخرى لمناقشة القضايا العالقة بين البلدين، والمسائل الغامضة في المقترح الأمريكي”.