معرض عن الاستبداد تحت مجهر الرقابة الصينية
Arab
2 hours ago
share
لم يكن معرض "تواطؤ متشابك" (Constellation of Complicity)، الذي استضافه مركز بانكوك للفنون، معرضاً عادياً يمرّ على الهامش. فمنذ الفكرة الأولى التي بُني عليها، حمل المعرض مشروعاً جريئاً يقوم على رصد التضامن بين الأنظمة السلطوية عبر العالم، وكيف يتشابه القمع في بنيته العميقة وإن اختلفت جغرافيته وأدواته. المعرض، المنظّم بالتعاون بين المركز وجهات محلية ودولية، جمع أعمالاً لفنانين من سورية وإيران وروسيا وميانمار ومجتمعات الشتات. ولم تكتفِ الأعمال بتوثيق المآسي أو إعادة إنتاج صور الضحايا، بل سعت إلى رسم أرشيفٍ بديلٍ للمقاومة. تنوّعت الأدوات بين الفيديو، والإنشاءات التركيبية، والرسوم، والأداء الفني، لتقدّم رؤية تتراوح بين أغاني المقاومة الشعبية وتجارب تجسّد علاقة الفرد بالسلطة، وصولاً إلى محاولات فنية لتعطيل أنظمة المراقبة، بوصفها إشارة إلى أنّ المقاومة ممكنة حتى في ظلّ الطوق الأمني الأكثر صرامة. لكن المفارقة الصارخة أنّ المعرض الذي أراد فضح التواطؤ بين الأنظمة الاستبدادية وجد نفسه ضحيةً لهذا التواطؤ. فبعد أيام قليلة من افتتاحه، زاره ممثّلون عن السفارة الصينية في بانكوك برفقة مسؤولين محليين. وما إن انتهت الزيارة حتى بدأت التعديلات: إزالة أعمال تتناول قضايا التيبت والأويغور وهونغ كونغ، تغطية أسماء بعض الفنانين بشرائط سوداء، حذف أجزاء من منشآت تركيبية، واستبدال شاشات العرض بأخرى مظلمة. بدا المشهد وكأنه تجسيد حيّ لفكرة المعرض نفسه: الاستبداد لا يعرف حدوداً، والدبلوماسية تتحوّل إلى وسيلةٍ لفرض الرقابة وإسكات الأصوات الفنية. أصوات الفنانين الفنان التبتي دوك تنزين، أحد أبرز المتضرّرين، عبّر عن أسفه لأنّ المتاحف باتت تُدار أحياناً وفق ما يخدم الحكومات لا المجتمعات. وأشار إلى أنّ إزالة عمله، الذي تضمّن توثيقاً لمظاهرات للتبتيين في المنفى وأفلاماً قصيرة عن الهوية والذاكرة، تكشف رغبةً في عزل التبت عن العالم الثقافي كما يُعزل سياسياً. أما الفنان الميانماري المعروف باسم ساي، فاعتبر ما حدث مفارقةً مأساوية: "كيف لمعرض عن نفوذ الأنظمة السلطوية أن يخضع مباشرةً لضغطٍ سلطوي؟". وأضاف أنّ فريق التنظيم لم يكن أمامه سوى خيار التعديلات لتجنّب إغلاق المعرض بالكامل، وهو ما كشف هشاشة الفضاء الفني أمام الضغوط السياسية المباشرة. أصداء عالمية القضية لم تقف عند حدود بانكوك، بل سرعان ما أثارت تفاعلاً واسعاً في الأوساط الثقافية العالمية، خاصةً مع تصاعد النقاش حول نفوذ الصين في جنوب شرق آسيا. البيان الفني للمعرض كان قد أكّد أنّ الاستبداد لا يعيش في عزلة، بل في شبكة مصالح وتواطؤات، وأنّ مهمة الفن هي رسم خرائط بديلة لهذه الشبكات. والمفارقة أنّ التدخّل الصيني جاء وكأنه برهان عملي على هذه المقولة: فالقمع يعبر الحدود ويعيد إنتاج نفسه حتى داخل فضاءات يُفترض أنّها ملاذات للحرية. تجربة بانكوك ليست حادثةً معزولة. خلال السنوات الأخيرة، سُجّلت حوادث مشابهة في مهرجانات سينمائية ومعارض فنية بعيدة عن آسيا، كان القاسم المشترك بينها الضغط المباشر أو غير المباشر لحجب أيّ مادة تتعلّق بالتبت أو الأويغور أو هونغ كونغ. اللافت أنّ الصين لا تتحرك منفردة في هذا المجال، بل تستفيد من تردّد الحكومات المضيفة التي تفضّل أحياناً التضحية بحرية التعبير مقابل الحفاظ على علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع بكين. وهكذا يصبح التدخّل في الحقل الثقافي أداةً فعّالة ضمن أدوات "القوة الناعمة" الصينية. حضور الغياب ورغم الرقابة والتعديلات، ظلّت الأعمال المحجوبة حاضرةً بطريقة أخرى. شاشةٌ فارغة أو اسمٌ مغطّى بشريطٍ أسود تحوّلا إلى رسالةٍ صريحة تكشف الرقابة أكثر مما تُخفيها. صار للغياب معنى إضافي، إذ دفع الزائر إلى التأمّل في ما لم يُعرض، وفي ما يعنيه أن يُحجب الفن تحت وطأة حسابات سياسية. بذلك، اكتسب المعرض طبقةً جديدة من الدلالة: ليس فقط ما قُدِّم من أعمال، بل أيضاً ما مُنع وما اختفى قسراً. وحتى مع استمرار المعرض في استقبال زوّاره حتى منتصف أكتوبر/ تشرين الأول، يظلّ السؤال قائماً: من يملك الحقّ في تقرير ما يراه الناس وما يُحجب عنهم؟ وهل يمكن للفن أن يظلّ مساحةً مستقلّة في عالمٍ تُحاصر فيه الأصوات الناقدة بشتى الوسائل؟ قد لا نجد إجابةً قاطعة، لكن المؤكّد أنّ تجربة بانكوك كشفت هشاشة المساحة الفنية أمام ضغوط السياسة، وأثبتت في الوقت نفسه أنّ الرقابة قد تُنتج أثراً عكسياً: تجعل الغائب أكثر حضوراً، وتحوّل الصمت نفسه إلى صرخة احتجاج.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows