
Arab
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وجدت القاهرة نفسها في قلب المعادلة الإقليمية في حرب غزة بحكم موقعها الجغرافي وصلاتها التاريخية بالقضية الفلسطينية. وعلى مدى العامين الماضيين، تحركت الدبلوماسية المصرية على أكثر من مسار، فاستضافت مفاوضات بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، وحاولت فتح معابرها لتسهيل مرور المساعدات، والتنسيق مع أطراف إقليمية ودولية لاحتواء الأزمة. غير أن هذه التحركات لم تكن بمعزل عن ضغوط خارجية متزايدة، خصوصاً من الولايات المتحدة وإسرائيل، التي دفعت باتجاه ترتيبات أمنية وسياسية تمس مباشرة الأمن القومي المصري.
وجاء إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب خطته الأخيرة بشأن غزة، والتي تقوم على وقف الحرب وإطلاق سراح الرهائن وضمان دخول المساعدات، مع رفض رسمي للضم أو التهجير، مقابل نزع سلاح حركة حماس، ليضع القاهرة أمام امتحان جديد. فمصر تجد نفسها اليوم مطالبة من واشنطن وحلفائها بالانخراط المباشر في ترتيبات "اليوم التالي"، بما يحمله ذلك من تداعيات على أمنها القومي وحساباتها الداخلية.
خطوط مصر الحمراء في حرب غزة
منذ بداية الحرب، أكدت القاهرة أنها ترفض بشكل قاطع أي ترتيبات تمس السيادة الفلسطينية أو تدفع نحو تهجير السكان إلى سيناء، معتبرة ذلك خطاً أحمر يهدد الأمن القومي. ومع خطة ترامب، تزداد الضغوط الأميركية والإسرائيلية على مصر للقبول بدور أكبر في إدارة غزة أو في تأمين حدودها، بينما تصر القاهرة على أن أي مشاركة يجب أن تكون تحت غطاء دولي واضح، خصوصاً قرارات مجلس الأمن. ورأى السفير حسين هريدي، المساعد السابق لوزير الخارجية المصري، أن الدور المصري لا يرتبط بخطة ترامب وحدها أو بظرف آني، بل هو امتداد لدور تاريخي راسخ. وقال لـ"العربي الجديد" إن القاهرة تبدو لاعباً ثابتاً في المشهد، لا يمكن تجاوزه، حتى لو تعقّدت الظروف وتشابكت المبادرات الدولية.
معصوم مرزوق: قبول خطة ترامب بدون تحفظات يعني عملياً إلغاء المسار القانوني الدولي ضد إسرائيل
في المقابل، قدم السفير معصوم مرزوق، المساعد السابق لوزير الخارجية، قراءة أكثر حذراً إزاء خطة ترامب، إذ قال لـ"العربي الجديد" إنه "ليس لأحد أن يقرر نيابة عن المقاومة الفلسطينية الموقف من تلك الوثيقة. وإذا كان هناك ما يمكن أن تقوم به المقاومة في الإطار الدبلوماسي، فهو إعلان القبول بما يتعلق بوقف إطلاق النار والانسحاب الإسرائيلي، لكن مع طلب ضمانات محددة يتم إفراغها في وثيقة أممية تستند إلى القرار 181، وتشمل جدولاً زمنياً ملزماً، واعترافاً صريحاً بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، فضلاً عن معالجة قضية اللاجئين". وحذر مرزوق من أن قبول الوثيقة بدون تحفظات يعني عملياً إلغاء المسار القانوني الدولي ضد إسرائيل، وأوضح أنّ "الموافقة المطلقة على ما جاء في الخطة تعني إلغاء موقف محكمة العدل الدولية بشأن جريمة الإبادة، وإلغاء أوامر المحكمة الجنائية الدولية بحق قادة إسرائيل. أما الرفض المطلق فهو مغامرة سياسية. ما بين القطبين، يبقى الخيار الوسط: قبول مشروط بضمانات، لكن القرار النهائي يظل بيد المقاومة الفلسطينية".
ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وما تلاه من حرب على غزة، سارعت القاهرة إلى إعلان موقفها عبر بيان لوزارة الخارجية وصف الهجوم الإسرائيلي بأنه تصعيد خطير يهدد المدنيين ويدفع المنطقة نحو مزيد من الفوضى، داعياً إلى ضبط النفس وضمان وصول المساعدات الإنسانية. وبدا البيان في حينه محاولة لترسيخ موقع مصر وسيطا تقليديا في الصراع، غير أن مضمونه عكس أيضاً الحذر من الدخول في تفاصيل أعمق أو تحميل إسرائيل مسؤولية واضحة عما وصفته منظمات دولية لاحقاً بأنه "جرائم إبادة".
تبنّت مصر خطاباً يرفض بشكل قاطع أي حديث عن تهجير الفلسطينيين إلى سيناء
ومنذ تلك اللحظة، تبنّت مصر خطاباً رفض بشكل قاطع أي حديث عن تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، معتبرة ذلك "خطاً أحمر" يمس أمنها القومي. ووجد هذا الموقف الصارم صداه داخلياً وخارجياً، لكنه بقي في كثير من الأحيان شعاراً أكثر منه سياسة مُفعّلة، خصوصاً مع غياب آليات واضحة للتعامل مع الضغوط الأميركية والإسرائيلية المتكررة التي حاولت الدفع نحو هذا السيناريو. في المقابل، وضعت القاهرة نفسها في موقع "المنفذ الإنساني" عبر معبر رفح. إلا أن المشهد على الأرض، مع تكرار إغلاق المعبر وتعقيد إجراءات مرور الشاحنات، طرح أسئلة حول ما إذا كان هذا الالتزام مرهوناً أكثر بالتوازنات السياسية والعسكرية الإسرائيلية، لا بالقرار المصري المحض.
وفي موازاة ذلك، جاءت التحذيرات المصرية من السيطرة الإسرائيلية على ممر صلاح الدين (فيلادلفي) لتكشف عن ازدواجية أخرى في السياسة الرسمية. وبينما اعتبرت القاهرة أي توسع إسرائيلي على الحدود خرقاً لاتفاقية السلام وتهديداً مباشراً للعلاقات الثنائية، فإن سيطرة إسرائيل بالفعل على الممر لم يقابلها رد عملي قوي، بل اقتصر الموقف على تصريحات إعلامية متفرقة. خطوة أخرى أثارت الانتباه كانت إعلان مصر في مايو/أيار 2024 نيّتها الانضمام إلى الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية في حرب غزة لكن سرعان ما اتضح أن الأمر لم يتجاوز حدود النيّة أو "طلب التدخّل"، إذ لم تقدم القاهرة حتى الآن مذكرات مفصلة أو تتحرك بوصفها طرفاً رئيسياً في الجلسات.
أما إعلان وزير الخارجية بدر عبد العاطي عن تدريب مئات الفلسطينيين لأدوار أمنية بعد انتهاء حرب غزة مستقبلاً فقد بدا خطوة عملية تتجاوز الخطاب، لكنها تطرح بدورها علامات استفهام. إذ يعكس هذا التحرك استعداداً مبكراً لدور مصري أمني-إداري في القطاع، لكنه يجري من دون وضوح بشأن طبيعة هذا الدور وحدوده، ومن دون نقاش علني داخلي حول مخاطره. وفي مواجهة أي مقترحات أميركية أو إسرائيلية حول "النقل القسري"، تمسكت القاهرة برفضها المطلق، معتبرة أن مثل هذا التهجير يعني تصفية القضية الفلسطينية. وكان اللافت أن الخطاب المصري شهد تصعيداً في لغته، إذ بدأ يصف حرب غزة بأنها "إبادة" أو "تطهير"، وهي مصطلحات لم تكن القاهرة تميل إلى استخدامها في السابق. لكن هذا التصعيد اللغوي لم يترافق مع خطوات سياسية أو قانونية ملموسة على المستوى الدولي، باستثناء الإعلان غير المكتمل عن دعوى محكمة العدل الدولية. وفي الوقت ذاته، واصلت القاهرة الترحيب بالمبادرات الدولية الداعية إلى وقف إطلاق النار، كما في بيان يوليو/تموز 2025 الذي وقّعته 28 دولة، واستمرت في استضافة المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل و"حماس" بشأن التهدئة.
إغلاق المجال العام أمام التظاهرات
وفي موازاة الحراك السياسي، لم يكن الحضور الجماهيري غائباً في حرب غزة منذ اللحظات الأولى، ففي 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023، خرج المئات من المصلين بعد صلاة الجمعة من ساحات الجامع الأزهر، يهتفون لفلسطين ويدينون القصف الإسرائيلي. وبعد أسبوع واحد، في 20 أكتوبر، شهدت القاهرة واحدة من أكبر التظاهرات خلال السنوات الأخيرة، حين تحركت مسيرة ضخمة من الأزهر باتجاه ميدان التحرير، في مشهد بدا كأنه عودة عابرة لروح الاحتجاجات الكبرى. غير أن تدخّل قوات الأمن كان سريعاً، ففرّقت المتظاهرين واعتقلت العشرات. وفي الجمعة الأخيرة من أكتوبر، تكررت الدعوات للتظاهر من الأزهر، لكن الحضور كان أقل بكثير، وانتهى باعتقالات جديدة. منذ تلك اللحظة، بدا واضحاً أن المجال العام قد أُغلق تماماً أمام أي تعبير جماعي.
وفسر رئيس حزب الإصلاح والتنمية محمد أنور السادات تراجع الحراك بالقول إن "هناك مبادرات كثيرة من النقابات والاتحادات والأحزاب والنشطاء لدعم الفلسطينيين. لكن الإشكالية أن الدولة تشعر بضرورة السيطرة على أي أنشطة أو فعاليات حتى لا يحدث ما قد يُفسَّر كأعمال شغب أو عنف تهدد السلم المجتمعي". وأضاف السادات، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الأمر يرتبط بتحذيرات وتقارير وصلت إلى الدولة وأجهزتها، في ظل انخراط القاهرة بجهود وساطة مع قطر ودول عربية أخرى للتوصل إلى وقف إطلاق النار. وقال: "أنا متفهم لهذه الاعتبارات، فقد اطلعت على بعض التقارير التي تفرض على أي صانع قرار أن يحرص على استقرار بلده، حتى لا نفقد القدرة على مساعدة أنفسنا أو الآخرين، وفي القلب منهم الشعب الفلسطيني في غزة".
علاء الخيام: الشعب المصري بالكامل مع القضية الفلسطينية، لكن المشكلة أن المواطن ممنوع من التعبير عن رأيه
على الضفة الأخرى، ذهب علاء الخيام، منسق "تيار الأمل" ورئيس حزب الدستور السابق، إلى تحميل النظام المسؤولية الكاملة عن تغييب صوت الشارع. وقال لـ"العربي الجديد": "الشعب المصري بالكامل مع القضية الفلسطينية، وهذا واضح في كل مناسبة أو مبادرة تضامنية، لكن المشكلة أن المواطن ممنوع من التعبير عن رأيه. الناس رأت بأعينها كيف تم اعتقال معارضين وشباب لمجرد تعليق لافتة أو طلب تصريح لتظاهرة. طبيعي أن يخاف المواطن العادي في ظل هذه الأجواء". وأشار إلى أن مصر كان لها "موقف واضح من رفض التهجير، ولكنها للأسف الشديد لم تتخذ الموقف المناسب لوقف الإبادة، أو إدخال المساعدات".
من جهته، قال أستاذ علم الاجتماع السياسي سعيد صادق لـ"العربي الجديد" إن "القضية الفلسطينية كانت المركزية الأولى، لكن مع استمرار الصراع وانهيار سبع دول عربية بعد الربيع العربي، ظهرت أصوات بين الشباب تقول: (القضية الفلسطينية ليست قضيتي)، وبرزت أولويات أخرى". كما لفت إلى أنه "انتشرت فكرة أن القضية الفلسطينية ليست مسؤولية مصر وحدها، وأنها قضية 22 دولة عربية و57 دولة إسلامية، لكن أين هذه الدول من المشهد، ولماذا تبدو مصر وكأنها تتحمل العبء بمفردها؟".
أما المستشار بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، عمرو هاشم ربيع، فرأى أن الدعم المصري لم ينقطع، وأن غياب التظاهرات الداعية لوقف حرب غزة لا ينفي استمرار التعاطف الشعبي. وقال لـ"العربي الجديد" إن "حجم المساعدات الإنسانية التي تقدمها مصر لغزة كبير جداً، ربما يتجاوز نصف ما يصل من العالم كله. هذا في حد ذاته تعبير عن الموقف الشعبي والحكومي. الشعب المصري دائماً كان ممتلئاً بالغضب من إسرائيل، وأحياناً يكون أكثر حدة من الفلسطينيين أنفسهم".

Related News

لماذا لا تُحسّن معظم المكملات الغذائية صحتنا؟
aawsat
5 minutes ago

بريطانيا لتسريع تطبيق «اتفاقية التجارة الحرة» مع الهند
aawsat
7 minutes ago

رونالدو: كثيرون يسألونني لماذا تريد تسجيل ألف هدف؟
aawsat
8 minutes ago

أردوغان: ترامب طلب منا «إقناع» حماس بخطته
al-ain
9 minutes ago