
Arab
في صباح مرتبك سياسياً، قدم سباستيان ليكورنو استقالته من رئاسة الحكومة، بعد 27 يوماً فقط من تعيينه. السبب المباشر لم يكن لغزاً، طريق مسدود حول "العدالة الضريبية"، وفشلٌ في انتزاع اتفاق على ضريبة مجدية تطاول الثروات الكبيرة، بعدما طرح بدائل أخف وقعاً. الاستقالة بهذا التوقيت أعادت سؤال الشارع إلى الواجهة: لماذا لا تُفرض الضريبة حيث توجد الثروة؟ وما الذي يجعل الفرنسيين لا يحبّون "أغنياءهم"؟
غضب يتراكم
على الطاولة، رفض ليكورنو "ضريبة زوكمان" كما هي (حدّ أدنى 2% سنوياً على الثروات التي تفوق 100 مليون يورو)، وفضّل ضريبةً محدودة على الشركات القابضة، مع استثناء "الأصول المهنية"، حصيلتها المتوقعة زهيدة في حدود مليار يورو أو تزيد عنها بقليل، وتعجز عن لمس قلب المسألة، الثروة المُمركزة في حصص الشركات. بالتوازي، لمّح ليكورنو إلى ضريبة دخل إضافية لمن يتجاوز دخلهم 250 ألف يورو سنوياً، كحلّ متدرّج. لكن بالنسبة لكثيرين، بدت هذه خطوات جانبية لا تمسّ أصل الفجوة.
وتفاعل ألكس؛ أحد المواطنين الفرنسين، مع الأوضاع وكتب على حسابه في منصة إكس: "بدلاً من ضرب الفقراء، ينبغي على الماكرونيين دعم ضريبة زوكمان"، وهذا رأي الكثيرين في فرنسا، حيث شعور يتزايد يومياً ويولّد نوعاً من الحقد تجاه الأثرياء، غذاه خطاب اليسار ورفض أتابع ماكرون إثقال جيوب الأثرياء. الأمر أصبح أقرب لمعركة مبدأ بين الأحزاب ومعركة الجيب بين المواطنين.
الجيب أولاً
شعور الفرنسيين المتنامي بمقت الأثرياء لم يكن وليد الصدفة، إذ للأمر علاقة بالوضع الاقتصادي والمعيشي؛ ثراء فاحش لطبقة معيّنة يقابله فقر مدقع لأخرى. متوسط الأسعار في فرنسا ارتفع على مدار العام 5.2%، ما ترك أثراً حقيقياً في الجيوب حتى مع تراجع التضخم لاحقاً. هذه ليست أرقاماً تقنية في نشرات رمادية، إنها ما يراه الناس في عربة التسوّق وعند ماكينة الدفع. من كان يملأ عربته التسوقية بـ 120 يورو أصبح يدفع ضعفها. فموجة غلاء 2022 استفحلت، وفواتير الطاقة والطعام والنقل تقتطع من القدرة الشرائية أكثر مما تحتمل الأسر. والأشد إثقالاً هو السكن، إذ واحد من كل خمسة مستأجرين في السوق الحر يدفع أكثر من 40% من دخله للسقف الذي يؤويه. هكذا تتكوّن مشاعر بسيطة وواضحة، عندما يأكل البيت نصف الدخل تقريباً، يصير الحديث عن اليخوت ومزادات اللوحات الزيتية على نار باردة.
هذا ما ترجمه حوار سريع على منصة إكس بين أرباب أسر، الأول علّق بأن ذهاب أو بقاء ليكورنو لا يعنيه تماماً مثلما لا يعنيه من يخلفه فبالنسبة له النتيجة واحدة، الجيب لا يمكنه أن يحتفظ بكل الراتب، بينما محاوره ذهب أبعد من ذلك عندما اتهم حتى اليسار "لأنه يبيع الوعود فقط ولم يجسّد شيئاً من الأحلام الموزّعة مع مطلع كل يوم".
فقر يوسع الهوّة
الأسى الذي يعمّ الطبقة المتوسطة في فرنسا مرّده إلى الخوف بأن تكون أيامهم في هذه الطبقة معدودة ويهبطون إلى الطبقة الأدنى، ففي 2023 سجّل المعهد الوطني للإحصاء الفرنسي ارتفاع الفقر إلى 15.4%، أي 9.8 ملايين تحت خط الفقر، وهو أعلى مستوى منذ بدء القياس عام 1996. وزاد العدد بـ 650 ألفاً عام 2023، وفي فرنسا تُحصى فقيراً إذا كان دخلك الشهري أقل بـ 60% من متوسط الدخل الشهري المقدّر بـ 1288 يورو شهرياً، وتشير الإحصائيات إلى أن 34.3% من العائلات الأحادية، أي الوالد أو الوالدة مع أطفالهم، تعيش تحت عتبة الفقرة، ما ينعكس مباشرة على الأطفال، ولك أن تتخيل ماذا ستحمل الأيام المقبلة في ظل تغيّر الأجيال من "جيل زد" إلى "جيل ألفا". هذه الأرقام اتسعت أكثر بعد أن كانت لدى الحكومات السابقة برامج المساعدات الاستثنائية التي أُقرّت عام 2022. وسينشأ جيل أكثر نقماً على الأثرياء من سلفه.
القمة تبتعد
وبينما تُصارع الطبقات الوسطى والدنيا لتثبيت أساس البيت، تبتعد القمة مسافات محسوبة بالأصفار. إجمالي ثروات "أعلى 500 ثروة" في فرنسا قفز وفق مرصد اللامساواة (جمعية فرنسية تهدف إلى تقديم نظرة عامة كمية على عدم المساواة في فرنسا وحول العالم) من 124 مليار يورو في 2003 إلى نحو 1.170 ملياراً في 2023. وفي 2024 وثّقت المجلة الفرنسية الاقتصادية تشالنجز الرقم عند عند 1.228 تريليون يورو.
المشهد الرمزي لا يقل وقعاً، فحسب روكسانفست (شركة فرنسية للاستشارات والتحليلات المالية) فإن متوسط تعويضات رؤساء شركات "كاك 40" بلغ 7.1 ملايين يورو في 2023، ووسط هذه الأرقام يُصنع إحساس يومي بأن قواعد اللعبة ليست واحدة، والأولويات تختلف. وعلى ذكر مؤشر "كاك 40" تتضح الهوّة بشكل أكبر، فبينما علّق فيكتورعلى هبوط المؤشر"رجل بلا شهادة ولم يعمل قط في حياته، تمكّن من خفض مؤشر كاك 40 بنسبة 2% في 5 دقائق، نحن نعيش في زمنٍ رائع حقاً!"، وكان رد جيلبار مضحكاً ومحزناً، فهو كان يعتقد أن "كاك 40 وجبة دسمة للأثرياء" لأنه يسمع عنها كثيراً في نشرات "بي.أف.أم.تيفي".
من المزاج إلى الموقف
وسط كل هذه المعطيات ليس غريباً أن تجد نصف الفرنسيين لا يحبون الأغنياء، وفق ما أعلنته نتائج استطلاع الرأي أجراه معهد كالستر 17 (معهد فرنسي لدراسات الرأي) في نهاية سبتمبر/ أيلول 2025، لهذا أغلب الفرنسيين يؤيدون فرض ضريبة زوكمان على أغنيائهم، وبالنسبة للشارع الفكرة ليست انتقاماً بل قاعدة بسيطة للإنصاف.
زوكمان…اسم صار عنواناً
الاقتصادي غابرييل زوكمان "قدّم الحل" ضريبة تستهدف حصراً الأثرياء الذين تتجاوز ثروتهم 100 مليون يورو، مع تقدير لإيرادات قدرها من 20 إلى 25 مليار دولار عالمياً. وهي الضريبة التي يحلم بها الفقراء علّها تكون حلاً لأزمة طال أمدها، بينما الأثرياء قد يبحثون عن ملاذ آمن من الضرائب العالية، وبدأ الهجوم على زوكمان، فهو صاحب الشرارة، لهذا لم يتوان أحد أكثر الأغنياء في أوروبا الملياردير الفرنسي برنارد أرنو، بوصفه باليساري المتطرف الذي يسعى جاهدا إلى تدمير الاقتصاد الليبيرالي. لكن مهما كان الاتفاق بين ليكورنو أو من يخلفه فإن هذه الضريبة قد تدفع بالمستثمرين للهروب مثلما فعل الممثل الفرنسي المشهور جيرار ديبارديو عندما نقل مقر إقامه إلى الحدود مع بلجيكا عام 2012 لتجنب دفع ضريبة إضافية هائلة على الدخل الذي يتجاوز مليون يورو وهو الهروب الذي كان شرارة لتفكير زوكمان.
حلول الالتفاف لا تُطفئ الشعور باللاعدالة
ليكورنو الذي لم يصمد أمام تباين المواقف وتطرفها واختار رمي المنشفة، وسيحاول مجددا بعد تكليف جديد من رئيسه ماكرون لإجراء محادثات أخيرة مع الأحزاب لرسم مسار للخروج من هذه الأزمة تبقى بدائله محدودة فإما ضريبة دخل إضافية على الشرائح الأعلى، ورسوم على القوابض تستثنى منها الأصول المهنية، فد تبدو لكثيرين تصحيحات على الهامش. فهي لا تُقارب ما يعتبره الرأي العام لبّ المشكلة: اتساع المسافة بين قدرة الأسر على العيش، وبين ثروات تتكاثر، ورواتب قمّة فلكية، وسياسة تتردّد كلما اقترب النقاش من الثروة لا الدخل. لذلك مغادرته مجدداً قد تكون تحصيل حاصل لأزمة أوسع، لا حادثة منفصلة. بينما من اشتكوا من الفقر أو من قسوة الأحياء الشعبية لن يزيد أو ينقص ذلك من تعاسة الوضع.

Related News

مستقبل اقتصاد إسرائيل بعيداً عن دعم أوروبا
alaraby ALjadeed
13 minutes ago

عندما تتوقّف الحرب في مقبرة الغزاة
alaraby ALjadeed
21 minutes ago

سؤال إلى فتح وحماس: ما خطّتكم الآن؟
alaraby ALjadeed
21 minutes ago

لماذا أخفق حراك تشرين العراقي؟
alaraby ALjadeed
22 minutes ago

عن "مجلس الشعب" السوري ومسار "الانتقال" العتيد
alaraby ALjadeed
22 minutes ago