من يتحكّم في حياتنا؟
Arab
20 hours ago
share
في أوج الخيارات، نحن نتخلى عن خياراتنا الجوهرية اللامتناهية للعيش. نعم، تلك التي تتبنى جوعاً معرفياً لا غنى عنه في كل المفاصل التي تصنع معنى البقاء. في أحد مراكز التسوق مثلاً واجهت هذا الضياع؛ فقد وجدت نفسي فجأة، ومن دون درايةٍ تامةٍ بالسبب الحقيقي — وأعني هنا السبب الجوهري لقدوم شخصٍ ما إلى التسوق لا المعتاد اليومي — أمام مشهدٍ غريبٍ من الإغواء. بين حنايا رفوف متنوعة وشهية وجذّابة بأشكالها الأنيقة واللافتة، تجد نفسك مجبراً على الضياع في أغلفتها الجميلة التي تُخفي في باطنها الوهم الحقيقي بعيداً عن الجوهر. أطعمة جاهزة، ومجمّدة، ومعلّبة، ممزوجةٌ ببعض الألوان والمكملات الكيميائية التي تضيف طعماً لائقاً ورائحة شهية. لكن ماذا عن خياراتنا هنا؟ رغم أن بعضنا يحاول الهرب خارج هذه الخيارات، باحثاً عن شيءٍ مختلفٍ أو أكثر طبيعية، فإن الواقع يفرض علينا منظومة اختياراتٍ معدّةٍ سلفاً، من الأطعمة إلى الشاشات التي تروّج عبر المشاهير لمنتجاتٍ كثيراً ما كانت سبباً في توجيه أذواق الناس، وإن كانت مضرةً بأجسادهم. وهذا يقودنا إلى سؤالٍ أعمق: أين تقف قدرتنا على الاختيار خارج الصندوق؟ كما يشير عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان في مفهومه عن الحداثة السائلة إلى أن المرحلة الحديثة هي مرحلة تفكّك المفاهيم الصلبة التي كانت تحكم العلاقات والمعاني، فـ"انفصلت القدرة عمّا نستطيع فعله، وما يتوجب علينا نحن القيام به". "اختر ما تريد، واشترِ ما تحب، وكأنك حرّ في اختيارك"، هكذا يُقال لنا، لكن باومان يوضّح أن هذه الحرية وهمية؛ لأن الخيارات محدّدة مسبقاً من السوق. رغم أن بعضنا يحاول الهرب خارج هذه الخيارات، باحثاً عن شيءٍ مختلفٍ أو أكثر طبيعية، فإن الواقع يفرض علينا منظومة اختياراتٍ معدّةٍ سلفاً الخيار الحقيقي الوحيد: الانخراط في الاستهلاك أو الخروج إلى الهامش. الفرد المستهلك يظن أنه حرّ، لكنه في الواقع محكوم بخطاب السوق، مسيّرٌ وفق منطق العرض والطلب. واليوم، لم يعد الاستهلاك مقتصراً على السلع المادية، بل تجاوزها إلى استهلاك العواطف والعلاقات الإنسانية والاجتماعية، وحتى تكنولوجيا التواصل ذاتها. وعلى الجانب الآخر، إذا حاولنا القفز خارج هذه الخيارات المحددة، فسنجد أنفسنا أمام سؤالٍ آخر لا يقل عمقاً: ماذا عن خياراتنا في الإنجاب؟ هل نعيد فكرة القدماء بأن الحياة يجب أن تستمر بالتكاثر، أم أن الأمر مجرد رغبةٍ في التعبير عن ذواتنا التي نخشى فقدانها؟ هل هو محاولة لتكرار أنفسنا، أم عادة ورثناها وفرضتها الأغلبية من حولنا؟ كثيرون يمارسون هذا الخيار دون وعيٍ حقيقيّ بأبعاده، ومن دون تخطيطٍ أو رؤيةٍ فكريةٍ مدروسةٍ لهذا التكاثر، وفق منطقٍ يراعي وعي الإنسان ومسؤوليته. فهل فرضت علينا الحياة والطبيعة رغبتها؟ أم أن خيارنا نحو الإنجاب لم ينبع من فكرةٍ عميقة، بل من توهّمٍ صنعته ذواتنا حين رأينا الأطفال من حولنا؟ وإذا أطلنا النظر في خياراتنا التقنية التي فرضتها التكنولوجيا علينا، نجد أننا أمام شبكةٍ من الأدوات الذكية التي سيطرت على عقولنا بصمتٍ ودهاء. خوارزمياتٌ تسلّلت إلى وعينا، دخلت عقولنا ببساطةٍ حتى صارت تتحكم في أذواقنا ومزاجنا وطريقة تفكيرنا. تجعلنا نتصفح — بلا وعيٍ — مقاطع قصيرة سطحية تُربك عقولنا وتشتت أذهاننا تحت شعار "التسلية"، لكنها في العمق تُعيد تشكيل وعينا وفق منطقٍ استهلاكيٍّ موجّه. لقد أصبحت هذه القفزة التقنية في متناول الجميع، بينما القليل فقط من يملك الوعي الكافي لكسر هيمنة تلك الخوارزميات عبر البحث العميق، والتفكير النقدي، والتنويع في مصادر المعرفة. لكن، ماذا لو استطعنا كبح جماحها فعلاً؟ بعيداً عن تلك الخيارات المفروضة علينا بدعوى التنوع، نحن نحتاج إلى قدرٍ هائلٍ من الوعي الفكري والمعرفي لتفكيك هذه السلسلة المحكمة من السيطرة الرقمية. وإن لم نفعل، فإننا بصدد مواجهة منظوماتٍ رقميةٍ هائلة تُدار بعقلٍ تجاريّ، هدفه الأول تسويق عقولنا وأفكارنا قبل بضائعه. إنها مواقع تواصل اجتماعي ممنهجة برؤية مسلية وسطحية، لكنها تمارس، في الواقع، تجريداً تدريجياً لإرادتنا الحرة، وتجعلنا نعيش في دائرةٍ مغلقةٍ من السلوك الاستهلاكي الموجّه. أما أولئك الذين يتحكمون بزمام هذه المنظومات، فيتوهمون أنهم "خارج" اللعبة، وكأنهم جاؤوا إلى الحياة بخياراتهم الخاصة، لا مدفوعين بقوانين السوق ذاتها. وفي ظل عصرٍ يتسارع فيه كل شيء، تبرز الأسئلة الجوهرية التي لا مفر منها: هل أسلوب حياتنا الذي نعيشه اليوم هو حقاً من اختيارنا؟ أم أننا نسير وفق الخط الذي يرسمه أصحاب المال والنفوذ، ويُسوقون له بذكاء؟ هل هي حريةٌ حقيقية أم نوعٌ من التنازل الهادئ من أجل الاستمرار؟ هل تخصّصنا الأكاديمي خاضعٌ لميولنا الذاتية؟ أم أن البيئة والعائلة والمجتمع رسموا مسبقاً طريقنا؟ هل وُجدت خياراتٌ حقيقية خارج تلك المصمّمة لنا بعنايةٍ ودهاءٍ وفق رؤيةٍ بعيدة المدى؟

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows