"ريفوبليكا" ليوسف فاضل وحرب الريف عبر الأجيال
Arab
14 hours ago
share
لا يهتم الروائي المغربي يوسف فاضل، في روايته "ريفوبليكا/ ثلاثية الريف" (منشورات المتوسط، 2024)، بعرض الحرب وتأثيراتها العسكرية الساحقة. لا أرقام، ولا معارك. حرب تقع خارج السجلات التاريخية المعروفة (عبد الكريم الخطابي، الأسلحة الكيماوية، معركة أنوال، الجنرال نافارو.. إلخ). الحرب في هذه الرواية مجرد شبح، أو فضاء خلفي، لما هو أهم: انسحاق ثلاثة أجيال تحت الآلة الرهيبة للحرب، في أحلامهم وذاكرتهم وتفاصيلهم اليومية. في هذه الرواية، تصبح الشخصيات، وهي تتحرك في فضاءات متعددة من الريف، محركات سردية لفهم الأزمة الممتدة منذ جيل اندلاع حرب الريف (1920-1927) إلى جيل حراك (2011)، حيث يمثل بنصالح (المعلم) امتداداً لميسور وروزمانة، وهما الركيزتان الرئيسيتان لفهم ما وقع، بينما تتشابك الشخصيات الأخرى (الأبناء: عبد المالك "الصحافي"، سليمان "المهرب الذي وضع نفسه في خدمة البارون حميدو"، خديجة، زهرة..)، مع شخصيات أخرى، مثل: فاطمة "الزوجة والأم" التي تعرف كيف تغوي وتتستر؛ وماريا التي يجتهد الشقيقان للظفر بقلبها، حتى لو وصل الأمر إلى القتل؛ وصفاء التي انتقلت إلى والماس لتتزوج؛ والمحامي المصمودي الذي زور عقد البيع وهرب؛ وعمر الشرطي "زوج الابنة" الذي خان؛ والسي حمزة (مدير جريدة "أخبار الحسيمة") الذي لا تهمه إلا الانتخابات؛ والقاضي الذي يعيش بهويتين؛ و"القايد" الذي كان مجرد بستاني في بيت ضابط إسباني فصار شخصاً ثرياً وقاطع طريق مثيراً للفزع؛ لتؤسس كل تلك الشخصيات شبكة معقدة من المسارات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تعكس انزلاق جرح الاقتلاع من جيل إلى جيل، من جيل. وهذا ما يسميه الباحثون المعاصرون بـ الصدمة العابرة للأجيال (Transgenerational Trauma)، فالأرض المباعة بأوراق مزورة من طرف المحامي الهارب، وخيانة الشرطي–الصهر، ليستا حدثين معزولين، بل تجسيد لآثار الصدمة الأولى (الحرب) وهي تعيد إنتاج نفسها في صور جديدة: فساد، فقدان الثقة، تدمير الروابط الأسرية. كما أن النزاع الخفي بين سليمان وعبد الملك على ماريا يكشف أن جراح الماضي تتحول إلى صراعات عاطفية وهوياتية في الحاضر. وكأن الرواية تقول: الحرب لا تنتهي، بل تغيّر قناعها لتطلّ علينا في كل جيل بوجه جديد. تتم الحرب في مكان آخر خارج نطاق "جغرافيا المواجهة والقصف" في هذا السياق، تلتقي ثلاثية "ريفوبيليكا" مع ما تطرحه المحللة الأميركية وأستاذة الأدب المقارن بجامعة كورنيل، كاثي كاروث، حول أن الصدمة ليست تجربة تنغلق بانتهائها، بل تُفتح من جديد كلما حاولنا استدعاءها أو إسكاتها؛ ومع ما يطرحه عالم الاجتماع الأميركي، جيفري ألكسندر، حول أن المجتمعات قادرة على إنتاج "سرديات صدمة" تُشكّل هويتها الجماعية وتحدد علاقتها بالماضي. لقد نجح يوسف فاضل في الإمساك بهذا الخيط، فحوّله إلى حبكة روائية تجعل القارئ يشعر، مع توالي الأحداث، أن الحرب تجري في فضاءين منفصلين للتاريخ نفسه: فضاء الحرب، وفضاء تأثير الحرب، حيث تتضافر العناصر كلها (السرد/ الحوار/ الوصف/الشخصيات/ الزمن/ البناء) لإعادة إنتاج سردية أخرى للريف غير تلك التي تقدمها لنا السجلات التاريخية، أو إن شئنا الدقة فهي تتيح لما إعادة إنتاج "الميتا حرب" التي تقنبل العلاقات الاجتماعية أكثر مما فعلته القنابل بمزار سيدي بوخيار بجبل احمام. بهذا المعنى، تتم الحرب في مكان آخر خارج نطاق "جغرافيا المواجهة والقصف". "لا يمضي يوم بدون قصف، ولكنه قصف بعيد". ذلك أن أحداث الرواية، حتى وإن أرغمتنا بعض عتبات فصولها على عدم الابتعاد عن الحرب تتصل بالأرض التي يطمح بنصالح، حد الهوس، أن تتفجر مياهها. الأرض التي ضاعت من أبيه ميسور الذي يحمل الحرب على كتفيه، حيث يقف القارئ على تفاصيل الانكسار النفسي والاجتماعي، سواء عبر فقدان الأحباء أو الانقطاع عن الأرض، أو مواجهة صدمة عدم الاعتراف الرسمي، أو حتى من خلال عدم الاكتراث بالجرافات التي اقتحمت أرض بنصالح، ووضعت حداً لأطماع أبنائه. إن قراءة "ريفوبيليكا"، في هذا الإطار، تتيح فهماً أعمق للتشابك بين الحرب والذاكرة. الماضي لا يموت، والحرب لا تنتهي، بل تظل حاضرة في الجسد الاجتماعي والنفسي، كما أن تخييل التاريخ يقضم مساحة كبيرة من التاريخ الرسمي، ليصبح السرد التخييلي آلة نشطة لتفكيك الذاكرة الجماعية للريفيين، وتحليل الصدمات الممتدة عبر الأجيال. الحرب لم تنته، بل تترجم جرحاً متجدداً يظهر في فقدان الأرض، في خيانة القانون، في الصمت المتوارث، وفي الحيرة التي تعتري الأبناء والأحفاد، بل وفي الخيانات وطعنات الظهر، وفي الإثراء غير المشروع، وفي السلطة الاجتماعية والاقتصادية التي يحوزها أباطرة المخدرات؛ فالحرائق التي خلفتها الحرب مستمرة في إنتاج النتائج نفسها على الأشخاص، على بنصالح وابنيه: عبد الملك وسليمان، وقبله على أبيه: ميسور، وإن اختلفت مظاهرها: فقدان الثقة، انكسار الهوية، اغتراب الذات عن أرضها وجذورها. لقد استثمر يوسف فاضل التاريخ في روايته ريفوبيليكا استثماراً دالاً، أعاد من خلاله كتابة ذاكرة الريف من داخلها. ومن ثم، نستطيع القول إن هذا العمل يندرج في ما يُعرف، نقدياً، برواية التخييل التاريخي، حيث يزاوج السرد بين المرجع الواقعي (حرب الريف/ حراك 20 فبراير) والتمثل المتخيل لهذا المرجع، ليصبح التاريخ، تبعاً لهذه الاستراتيجية الكتابية، مادة قابلة لإعادة التشكل، لا لتأكيد ما جرى بالفعل. كما يمنح للوقائع بعداً تأويلياً جديداً خارج التوثيق التاريخي. ويمكن القول إن همّ يوسف فاضل، في ثلاثية "ريفوبيلكا" لم يكن هو التأريخ لحرب الريف، بل لارتداداتها طويلة الأمد التي ما زالت تهزّ أبناء الريف جيلاً بعد جيل. فالرواية، بهذا المعنى، صورة مكثفة لأزمة الريف عبر الأجيال، من زمن المقاومة إلى زمن الدولة الحديثة. ذلك أن الصراع لم يعد بين المستعمر الإسباني أو الفرنسي وأهل الأرض، بل بين الأبناء أنفسهم، بين من يريد الخلاص الفردي بأي ثمن (الأبناء/ الشرطي/ المحامي)، ومن يتمسك بذاكرة المقاومة يوصفها خلاصاً جماعياً "بنصالح". يندرج العمل في ما يُعرف، نقدياً، برواية التخييل التاريخي إن التاريخ، الذي يكتبه فاضل، ينقل ما وقع من رحم الجرح الأكبر. جرح الذات، خاصة أن هذا التاريخ من منظور الذات الساردة يخضع لتحول جوهري يجعله مجالاً للتأويل وإعادة البناء. فالذات، حين تتكلم، في الرواية، لا تكتفي باستعادة ما حدث، بل تُدخل عليه انفعالاتها، رؤيتها، وأحكامها الأخلاقية والجمالية. كما أنها تحرر التاريخ من "الجمود الوثائقي"، أو من "الحقيقة الواقعية". ومن هذا المنظور، يمكننا القول إن "ريفوبليكا"، التي وظّف فيها يوسف فاضل التعدد الصوتي "البوليفونيا"، فضاء للتفاوض بين الذاكرة الفردية "الهامش" والذاكرة الجمعية "التاريخ الرسمي"، أي بين ما ترويه الذات بتعدد شخصياتها، وما تفرضه الوثيقة التاريخية. ومن ثم، فالتاريخ لا يُروى من فوهة المدفع، بل من ذاكرة الهامش. كل الشخصيات تتكلم باسم التاريخ المنسي. كما أن ميسور وروزمانة وأبناءهما، وسليمان وعبد الملك وماريا، يشكّلون كلهم شجرة نسب رمزية لأجيال الريف التي ولدت من رحم الحرب، وورثت عن أسلافها الخسارة والخذلان، تماماً كما ورثت الأرض التي سُلبت منهم. هكذا تُظهر ثلاثية "ريفوبيليكا" أن الحرب لا تتوقف مع سقوط آخر قذيفة، ولا مع إعلان نهايتها، بل تستمر في النفوس والذاكرة والعلاقات. إنها تنتقل من الساحة إلى البيت، من الجبهة إلى المائدة، من المواجهة المباشرة إلى الصمت الطويل، من الأسلاف إلى الأحفاد، من الأدب إلى الإعلام، من المسرح إلى السياسة. "الحرب دائماً هي الحرب": لعنة مفتوحة على الجهات الأربع للخسارة، لا تنهي نتائجها بخروج المستعمر، بل تستمر عبر الخيانات وفقدان الثقة وانقطاع الجذور. * كاتب وشاعر من المغرب

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows