إريك ساتي... أن يكون الكسل موهبةً
Arab
2 days ago
share
حين كان لا يزال طالباً في كونسرفتوار باريس، قال عن المؤلف الفرنسي إريك ساتي (1866-1925) أساتذتُه إنه "موهوب، لكن كسول". وبعد ثلاث سنوات من أخذٍ وردّ، بين طرده مرّة وإعادته إلى صفوف الدراسة مرّةً أخرى، وتكبّدهم في محاولة تأهيله وتقويم سلوكه الأكاديمي "جهداً لم يُجدِ نفعاً"، اتُّخذ القرار بفصله نهائياً سنة 1886. في جانب سيرة إريك ساتي (Erik Satie)، ظلّ إحساس النقص إزاء الصنعة الفنّيّة والمهارة التقنيّة هاجسَين يلازمانه طوال حياته. حتى أنه في سن التاسعة والثلاثين، التحق بمدرسة موسيقيّة خاصّة في مدينة بازل السويسريّة اسمها Schola Cantorum، بغية سدّ الفجوة المعرفية وتمتين الأسس النظريّة في التأليف الموسيقي، مثل مبادئ الانسجام (Harmony) وقوانين التقابل النغميّ (Counterpoint). ومن جملة تلك المعارف التوزيع الأوركسترالي، أي إسناد كل لحن ضمن مقطوعة موسيقيّة إلى آلةٍ بعينها لأدائه من فرقة العازفين. وهو أمر يتطلّب إلماماً دقيقاً، نظرياً وعملياً، بماهيّة كلّ آلةٍ على حدة، ثم بكيفيّة مزج صوتها مع آلة أخرى، سواءً داخل الفئة ذاتها كالوتريات (الكمان والتشيلّو)، أو من خارجها، كمزج صوت التشيلّو مع أحد الأبواق النحاسيّة مثل الترومبيت. وقد حال شعوره بعدم كفاية مؤهّلاته في هذا المضمار دون تحقيق حلمه في إعادة كتابة مقطوعاته لتؤدّيها فرقة رباعيّ وتريّ (آلتان للكمان وآلة فيولا وتشيلّو). ذلك أنّه ظل مكتفياً بإتقانه العزف على البيانو، فاقتصر نشاطه التأليفي على الآلة التي خبرها بحكم النشأة والممارسة ومن غير جهدٍ يُذكر. وعلى غرار مشروع الرباعيّ الوتريّ، خلّف ساتي وراءه أعمالاً كثيرة غير منجزة ومشاريعَ لم تر النور.  سلك الموسيقيّ "الموهوب والكسول" طريق البوهيميّة، متّخذاً إيّاها منهجاً فلسفيّاً ونمط عيش، أشبه بـ"دروشة" عَلمانية مطعَّمة بقيم الحداثة الغربيّة: تمجِّد الفردانيّة، وتتمرّد على المؤسّسات الثقافيّة والاجتماعيّة، وتنبذ النزعة الاستهلاكيّة، وتحجم عن إرضاء الذائقة السائدة. كان يتسكّع نهاراً، مخموراً، في أزقّة مونتمارت والحيّ اللاتينيّ في باريس، ويكسب ليلاً قوتَه عازفَ بيانو في الحانات والكباريهات. وفي تلك البيئة المشبعة بالجنس والمجون والأفيون، لم يعرف الاستقرار العاطفي، لم ينجب الأطفال، ولم يكترث لادّخار المال. من منظور الحاضر، ووفق علماء النفس السلوكيّ المعاصرين، ودعاة خطاب "التنمية الذاتيّة" الرائج في ظلّ النيوليبراليّة الاقتصاديّة القائمة على الرياديّة والتنافسية، يُشار إلى أمثال إيريك ساتي بأنّهم من "ذوي الإحراز المتدنّي" (Underachievers)؛ أي أولئك الذين لم يرتقوا بجهدهم إلى مستوى مواهبهم، وتقاعسوا على امتداد حياتهم عن الكدّ في سبيل تحقيق كامل طاقاتهم الكامنة. ولئن يُعزى ذلك عادةً إلى جملة عوامل لا تقتصر على ما هو ذاتيّ، بل تشمل الموضوعيّ أيضاً، من أثر العائلة والبيئة الاجتماعيّة المحيطة، فضلاً عن مشيئة الأقدار، فإنّ أصابع الاتهام تُوجَّه في الغالب إلى الفرد نفسه، بوصفه مكبَّل الإرادة، حالَّ العزم، فاقدَ الهدف؛ فإذا ما عثر عليه أمسك بزمام حياته، متجاوزاً الرداءة إلى الكفاءة، حتى يبلغ قمة النجاح ويقترب إلى السعادة. لكن المفارقة أنّ ساتي يُعَدّ اليوم، بل ومنذ سنوات حياته الأخيرة، واحداً من أبرز مؤلّفي الموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة في مطلع القرن العشرين، ومن أشدّهم تأثيراً في تيّارات فنّيّة لاحقة كالمينيماليّة والأجوائيّة (Ambient)، متجاوزاً أثرُه حدود الكلاسيك إلى الجاز والبوب والتكنو وموسيقى الأفلام. أمّا جوهرُ الأثر الذي خلّفه في الإرث الموسيقي العالمي، فربّما على صلة وثيقة بوصمة الكسل، تلك التي لازمته منذ أن كان طالباً فاشلاً في كونسرفتوار العاصمة الفرنسية، ثم بوهيمياً هائماً في أزقّة الفقر والمتع الرخيصة فيها. عاش ساتي في زمن أوروبيّ عاصف بالتحوّلات التاريخيّة الكبرى، إذ تجلّت مظاهرها عبر مختلف صُعُد الحياة، من الأمن والاقتصاد إلى المجتمع والفكر والثقافة، بما في ذلك الموسيقى التي بلغت في حقبة الرومانسية أواخر القرن التاسع عشر الذروة في قوّتها التعبيريّة على أيدي أعلامها المتأخّرين، مثل ريتشارد ڤاغنر وهكتور برليوز. لقد نبغ هؤلاء في استثمارٍ بلغ أقصى حدوده، سواء في توسيع الفرقة السيمفونيّة، أو في تسخير المعرفة النظريّة والمهارة التقنيّة التي راكمها أعضاؤها، فضلاً عن الكمون الصوتي غير المسبوق للعتاد الموسيقيّ الجديد الذي أتاحه التطوّر التكنولوجي خلال الثورة الصناعية. حتى بات السؤال المطروح: ما الذي يُمكن إضافته على الموسيقى، في ظل استنفاد وسائلها التقليدية حدود الاكتمال، ما الذي يُمكن قوله عبرها، بعدَ أن لم يعد ثمة ما يُقال.   مع ذلك، لم يستطع الجيل الأوّل من مؤلّفي القرن العشرين، مثل غوستاف ماهلر وريتشارد شتراوس، أن ينزع عنه عباءة القرن التاسع عشر الثقيلة، فساروا في ركب أقطابه البارزين، وتابعوا تشييد صروحٍ موسيقيّة عملاقة تقوم على الإثارة الصوتيّة في الشكل، والدراما الملحميّة في المضمون. حتى الأكثر طليعيّةً بينهم، كأتباع المدرسة الانطباعيّة من كلود ديبوسي وموريس رافيل، حين كتبوا موسيقى لفرق كبيرة، لم يفلتوا من سطوة الرومانسيّة، فعادوا بدورهم يلجؤون إلى أدوات الجبر الصوتي ومظاهر الأبهة الأوركسترالية.  ما عدا ساتي، الذي خرج عن السائد خروجاً راديكاليّاً. فقد استلهم من بوهيميّته وعمله عازفاً في الملاهي أسلوباً موسيقيّاً متفرّداً، يتّخذ من البيانو المنفرد الوسيط التعبيريّ الوحيد الذي يُجيده ويُلمّ به؛ لا ليُبهر المستمع بملاحمَ مسرحها مفاتيحه الثمانية والثمانين، بل ليُدهشه، بتصميمه مُجسّمات نغميّة دقيقة ورقيقة، كما لو أنها مشغولة من ورق، لا تعرض سرديّات، ولا ترسم مشهديّات، لا تنسج حبكات، ولا تمزج أنواءً ومناخات، إنّما تُؤثّث الصمت بتقشّفٍ أنيق، فتجعله أخفّ وطأةً وأقرب شبهاً بالأصوات المبعثرة المتسرّبة من ضوضاء الحياة اليومية.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows