
Arab
في 29 سبتمبر 2025، توفي الجزائري فوزي صايشي عن 74 عاماً، بعد مسار سينمائي كشف براعته في تأدية الأدوار الثانوية، رغم امتلاكه ما يؤهّله لتمثيل أدوار أولى وثانية.
لم يكن فوزي صايشي ممثلاً عادياً، بل شاهداً أساسياً لأهمّ مراحل السينما الجزائرية، إذْ امتدّت تجربته الشخصية أكثر من نصف قرن، وبدايتها الفعلية في الفنّ السابع، بحصوله على دور صغير في الروائي الطويل "ليلى والأخريات" (1977)، لسيد علي مازيف. فرصة مؤاتية، جعلته يتخلّى عن حلمه الموسيقي الذي بدأه بعزف الجاز، قبل أنْ تُصبح السينما حلمه، عبر التمثيل.
ثم بدأ يُفكّر جدّياً في هذا الفن، إذْ وجد لديه معطيات جسدية ميّزته عن الممثلين الآخرين، كنظرته الحادة، وملامحه القوية، وتكيّفه السهل مع الأدوار، إضافة إلى مظهر جسدي، انعكس في حدبة صغيرة في كتفه اليسرى، وهذا طوَّعه لمصلحته، وجعله يمتاز به عن غيره. هناك أيضاً جهده وموهبته وسرعة تعلّمه، وتعامله بجدّية وحِرفية مع الأدوار التي توكل إليه، وعدم الاستهانة بها أو استصغارها، مهما كان نوعها وتوجّهها وحجمها وأيديولوجيتها، فالمهمّ له إنجاز المهمة السينمائية باحتراف بالغ، والانتصار لها فنيّاً.
هذه المعطيات وغيرها جعلته محلّ ثقة لدى مخرجين عديدين، يعيشون في الجزائر أو خارجها. لذا، استعين به في أعمال متفرّقة، فيكون له في أي عمل يشارك به حضور قوي ونَفَس مُتقدّم، كأنه يساند، بأدواره الثانوية الكثيرة، الأبطال الأساسيين، ويُعطيهم انطلاقة جيدة وفارقة ومميزة. هذا لا يعني أنه لا يحبّ الأدوار الرئيسية، أو يرفضها، بل لأنها لم تُعرض عليه، إذْ ربما لم يكن البطل المثالي للمخرجين، رغم نجاحه في هذا المسار، خاصة بتأديته دور البطولة في "سقف وعائلة" (1982)، لرابح لعراجي.
يروي هذا الفيلم قصة موظّف شاب جزائري في المحكمة، لديه رغبة جامحة في الزواج. لكن الرغبة تذوي، وتتحوّل إلى شعلة تحرق أعصابه وقلبه وطموحاته. وهذا عبر رحلته المضنية في البحث عن سكن، ليؤسّس عائلة. تصطدم الرغبة بالبيروقراطية، والمشاكل الاجتماعية، وغياب الفرص، وعدم تساويها.
شارك "سقف وعائلة" في المسابقة الرسمية للدورة الثامنة (29 أكتوبر/تشرين الأول ـ 5 نوفمبر/تشرين الثاني 1982) لـ"أيام قرطاج السينمائية"، وفاز صايشي بجائزة أفضل ممثل. وكانت منافسة له مع الممثل المصري نور الشريف، عن دوره في "حدوتة مصرية" (1982) ليوسف شاهين. بحسب صايشي، صفّق له الشريف كثيراً فور إعلان اسمه. وعندما التقاه بعد سنوات طويلة في باريس، سأله مازحاً عن عدد الأفلام التي شارك فيها بعد قرطاج، فأجاب نور: 200 فيلم. ثم سأله المصري، فردّ صايشي: 8 أفلام. إجابة عبثية، تعكس تردّي وضع الممثل الجزائري عامة. هذه الشهادة حاضرة في حوار أجرته معه الصحافية حسناء شعير، نُشر في "البلاد" الجزائرية سنة 2017.
كما اقتسم فوزي صايشي دورة البطولة مع مصطفى العنقى ومليك لخضر حمينة، في "سنوات التويست المجنونة" لمحمد زموري، كتابة وإخراجاً. بدأ تصويره سنة 1982، وأُنجز سنة 1986: نقدٌ لاذع لثوّار اللحظات الأخيرة زمن الحرب، ورصد للتحوّلات الكبرى في الجزائر مع بداية المفاوضات مع الاستعمار الفرنسي حول الاستقلال، بدءاً من سنة 1960 (لحظةٌ قارَبَها الفيلم). بذلك، يكون عمل زموري فارقاً في تاريخ السينما الجزائرية، بالموضوع المُعالَج فيه، وبحساسيته المفرطة إزاء أسماء عدّة صنعت الثورة أو شاركت فيها، ثواراً حقيقيين أو مزيّفين، فالمهم أنهم أحياء (حينها)، امتلكوا السلطة، ووقفوا على الفيلم عند صنعه وعرضه.
بعدها، توالت مشاركات صايشي في أعمال سينمائية جزائرية مهمة. كما شارك مع زموري مجدّداً في "من هوليوود إلى تمنراست" (1990): رحلة فنية تكشف عن صراع الهوية بين الشهرة العالمية والانتماء المحلي، مع بداية انتشار اللاقط الهوائي، الذي أصبح يتحكّم في حياة الجزائريين وطرق تفكيرهم، وباتوا يتقمّصون أدوار أبطال المسلسلات التلفزيونية الأميركية، فلبسوا أدوار جي آر وسو إيلين ورامبو، والأخيرة يؤدّيها صايشي بطريقة كوميدية وساخرة. كما شارك في "شاب" (1991) لرشيد بوشارب، المعروض لأول مرة عالمياً في الدورة الـ41 (15 ـ 26 فبراير/شباط 1991) لمهرجان برلين السينمائي، واختير للترشيحات الأولى لأوسكار أفضل فيلمٍ بلغة أجنبية، في النسخة الـ64 (30 مارس/آذار 1992): شاب جزائري وُلد وترعرع في فرنسا، لكنه اضطرّ للعودة إلى الجزائر التي لا يعرفها، ولا يُتقن لغتها ولا يُدرك تقاليدها، فيعيش صراعاً حاداً بين ماضيه، المرتبط بالمهجر، وواقعه الجديد في وطن غريب عنه، تنعكس منه إشكاليات الهوية والانتماء التي عاشتها أجيال المهاجرين الجزائريين في أوروبا (أدّى صايشي دور عامل في حمّام).
له مشاركات عدّة ومهمّة: "مرحبا ابن العم" (1996) لمرزاق علواش، و"الصورة الشخصية" (1996) لبوشارب أيضاً، و"الحدود" (2001) لمصطفى جاجام، و"تحيا الجزائر" (2004) لنذير مخناش، وغيرها، إلى مسلسلات ومسرحيات إذاعية مهمة وفارقة، وكلّها أعمال فنية، ساهمت في اتساع نجوميته وحضوره بين فئات واسعة من المجتمع.
بعد مسار طويل من الحضور في شتى الحقول الفنية، عاش فوزي صايشي (9 إبريل/نيسان 1951 ـ 29 سبتمبر/أيلول 2025) في الفترة الأخيرة آلام المرض، بمنفاه الاختياري بباريس، بعد سفره إليها مُضطرّاً في تسعينيات القرن الماضي، بسبب ظروف أمنية خطرة في بلده، أودت بحيوات فنانين كثيرين. رغم هذه الهجرة، بقي مرتبطاً ببلده.

Related News

مستقبل اقتصاد إسرائيل بعيداً عن دعم أوروبا
alaraby ALjadeed
13 minutes ago

عندما تتوقّف الحرب في مقبرة الغزاة
alaraby ALjadeed
21 minutes ago

سؤال إلى فتح وحماس: ما خطّتكم الآن؟
alaraby ALjadeed
21 minutes ago

لماذا أخفق حراك تشرين العراقي؟
alaraby ALjadeed
22 minutes ago

عن "مجلس الشعب" السوري ومسار "الانتقال" العتيد
alaraby ALjadeed
22 minutes ago