الرقة في زمن "قسد"... خدمات غائبة وضغوط أمنية وتضييق على المجتمع
Arab
1 week ago
share
الرقة، المدينة التي مرّت بكل أشكال العنف، من بطش نظام الأسد إلى بربرية تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، تبدو اليوم، في لحظة كان يُفترض أن تكون مرحلة تعافٍ، أكثر تعباً وإنهاكاً من أي وقت مضى. بعد ثماني سنوات من سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على المدينة، يتحدث أبناؤها بمرارة عن واقع متدهور في كل شيء: خدمات، أمن، مؤسسات، وحتى الأمل. لم ألتقِ أحداً إلا وكان غاضباً، محبطاً، ساخطاً، أو صامتاً. ليست الرقة اليوم المدينة التي عرفناها. شوارعها غارقة في القمامة، ومياهها ملوّثة، وكهرباؤها تأتي ساعات قليلة، إن أتت. مشاريع البنية التحتية متوقفة أو تُدار بارتجال، والنظام الإداري بأكمله قائم على الولاء والمحسوبيات، وليس على الكفاءة. من أكثر العبارات تداولاً في الرقة اليوم "من يحرّر يقرّر". وتعني ببساطة أن من قاتل مع "قسد" أو خدم مصالحها هو من يتولى المناصب في قلب المدينة، الطرق الرئيسية أشبه بحقول تدريب دبابات، مليئة بالحفر والمطبات. سألت أكثر من مرّة إن كانت هذه الشوارع قد تعرّضت لقصف، والجواب كان دائماً: "لا، الإهمال فعل ذلك". لا بل إن كثيرين قالوا بمرارة إن الشوارع ربما كانت أيام "داعش" أنظف، فالقمامة متراكمة في كل زاوية. لا سيارات نظافة منتظمة، وإن وُجدت، تعمل بطريقة بدائية. في بعض الأحياء، تصادف كومة قمامة بجانب مدرسة، أو مستشفى. الكهرباء بين الاحتكار والمحسوبية والتلوث تعيش الرقّة اليوم في ظلام طويل يمتد أكثر من 20 ساعة في اليوم. لا تزور الكهرباء معظم الأحياء إلا أربع ساعات، وفي بعض المناطق لا تتجاوز الساعتين. كل من التقيتهم في المدينة أكدوا أن لا أعطال حقيقية في سد الفرات، وأن التراجع في منسوب مياه النهر ليس بالحجم الذي يبرّر هذا الانهيار الكامل في الخدمة. ولكن الكهرباء ليست مفقودة تماماً. في الأحياء التي يسكنها مسؤولون محليون أو أشخاص محسوبون على "قسد"، لا تنقطع الكهرباء أبداً. هناك أحياء تتمتع بخدمة 24 ساعة، ما أثار سخط السكان الذين يرون في ذلك مظهراً صارخاً من التمييز والفساد الإداري. في المقابل، يعتمد معظم سكان المدينة على ما يُعرف محلياً بـ"الأمبيرات"، وهي مولدات كهرباء ضخمة، يمتلكها تجّار مرتبطون بـ"قسد"، منتشرة في أغلب الشوارع. صوتها مزعج، ودخانها يملأ الأحياء، مسبّبة تلوثاً كبيراً ومشكلات صحية، خصوصاً للأطفال وكبار السن. تدرّ هذه المولدات أرباحاً هائلة لأصحابها، وتحوّلت إلى مصدر طاقة بديل باهظ الثمن لا يمكن للجميع تحمّله. ما يفترض أن يكون خدمة عامة أصبح سوقاً سوداء، وسلعة يتحكم بها المتنفذون. وفي غياب أي مساءلة، تحوّلت الكهرباء من حقٍّ أساسي إلى أداة ضغط، ووسيلة للربح، ورمزٍ صارخ لانعدام العدالة في توزيع الموارد. والمفارقة أن الرقّة، المستلقية على ضفاف نهر الفرات، باتت اليوم عطشى. المياه حين تصل، بحسب سكان كثر، تكون ملوثة، وتسبّبت في انتشار أمراض جلدية ومعوية، خصوصاً بين الأطفال. بعض الأحياء لا تصلها المياه لعدة أيام. وعندما سألت أحد الفنيين المحليين عن السبب، أجاب: "لا مشكلة في المحطات… فقط لا توجد صيانة، ولا إدارة، ولا توزيع عادل". فساد بنيوي ومن أكثر العبارات تداولاً في الرقة اليوم "من يحرّر يقرّر". وهي تعني ببساطة أن من قاتل مع "قسد" أو خدم مصالحها هو من يتولى المناصب، مهما كانت مؤهلاته. أحد الأمثلة الصارخة على ذلك مديرة التربية والتعليم، التي، بحسب شهادات متعددة، لا تحمل أي مؤهل تربوي، وكانت قبل دخول "قسد" تمتهن بيع الخضار. وهذا لا يُقال ازدراءً بالمهن، بل احتجاجاً على تحويل القطاع التعليمي إلى مجالٍ للمكافآت السياسية، لا للإصلاح أو بناء الأجيال. أقصي معلمون مؤهلون كثيرون، أو انسحبوا، بسبب التمييز السياسي، أو ضعف الرواتب، وغياب بيئة العمل. كل من تحدثت معهم عن المشاريع والخدمات والموارد أجابوا بالعبارة نفسها: "كل شيء يُدار بعقلية الغنيمة". دخلت، منذ عام 2017، مئات الملايين من الدولارات إلى مناطق "قسد" عبر تمويل دولي ومشاريع تنموية. ولكن لا أحد يعرف أين ذهبت. ومن يعيش في الرقّة يرى الحقيقة: لا طرق معبّدة، لا بنى تحتية جديدة، لا مؤسّسات شفافة، ولا رقابة. تسلّم معظم العقود لشركات يملكها مقرّبون من قيادات "قسد". كل قطاع محكوم بدائرة مغلقة من المنتفعين. سألت ناشطين كثيرين "من أضاء هذا الشارع؟" أو من رمّم هذا الأثر التاريخي؟" تأتي الإجابة أن "الفرنسيين" أو "البلجيكيين" هم من موّلوا أعمالاً ومشاريع كهذه. معظم المباني الحكومية التي دمّرتها قوات التحالف الدولي في حربها على تنظيم الدولة الإسلامية عام 2017، قيل لي إن التحالف أعطى الأموال اللازمة لإعادة إعمار تلك المباني. بدلاً من ذلك، أقامت "قسد" مباني ضخمة عند مدخل الرقّة الغربي، مسوّرة بالكامل، ولا يمكن الاقتراب منها، وبعض الأبنية الأخرى على الطريق الواصل إلى الجسر القديم على نهر الفرات. وفيما يتعلق بالأبنية الحكومية القديمة، والواقعة في شارع الاماسي، أضحت مكباً للقمامة.  شبكة معقدة من السجون والمراكز الأمنية، تشبه، إلى حد كبير، تلك التي عرفها السوريون عقوداً في ظل نظام "البعث"، لكن بأساليب أقل علنية وأكثر غموضاً "قسد" تحكم بالخوف لا بالقانون قد تبدو الرقّة اليوم أكثر هدوءاً من سنوات الحرب، لكن هذا "الهدوء" هشّ، ومضلّل، فهو لا يعكس استقراراً حقيقياً، بل خوفاً مكتوماً يسود المدينة. ففي ظل حكم "قسد"، تحوّلت الحياة اليومية إلى معادلة خفية: كلما اقتربت من السياسة أو عبّرت عن رأيك، اقتربت من "الخطر الصامت". يتحدّث السكان عن شبكة معقدة من السجون والمراكز الأمنية، تشبه، إلى حد كبير، تلك التي عرفها السوريون عقوداً في ظل نظام "البعث"، لكن بأساليب أقل علنية وأكثر غموضاً. ... قال لي ناشط سابق، بصوت منخفض: "اعتُقلتُ لأنني كتبت منشوراً على فيسبوك. مجرّد انتقاد صغير عن النظافة. قضيت شهرين من دون تهمة، من دون تحقيق، ومن دون أن يعرف أحد أين أنا". ما لا يعرفه كثيرون خارج المنطقة أن "قسد" تُدير شبكة واسعة من السجون، بعضها رسمي، وبعضها سرّي، وبعضها الآخر لا يُعرف له مكان أو اسم. وهنا قائمة جزئية بالسجون المعروفة: سجن الأحداث في الرقة: مخصّص كما يقال للقُصّر، لكنه يُستخدم أحياناً لاحتجاز ناشطين لتجنّب إثارة الانتباه. سجن الأقطان الجديد (الرقة) مركز اعتقال واسع وسري نسبياً. السجن المركزي في الرقّة: يقال إنه يضم معتقلين من دون لوائح اتهام. سجن عايد: معروف بظروفه السيئة وتجاوزاته الأمنية. سجن الطبقة المركزي وسجن المنصورة: يضمان معتقلين سياسيين، وبعض من لم تثبت ضدهم تهم، لكنهم "غير مرضي عنهم". سجن كوباني (عين العرب): يُستخدم لأغراض أمنية خاصة، ويُحتجز فيه ناشطون أكراد يعارضون "قسد". سجن غويران المركزي في الحسكة: من أكبر السجون، وسبق أن شهد تمرّداً واسعاً لسجناء تنظيم داعش. سجن العزيزية، سجن النشوة، سجن القامشلي، سجن الهول، سجن الشدادي، سجن رميلان: لكل منها طابع خاص، لكنها تشترك في غياب الشفافية، وتعدّد الانتهاكات، واحتجاز الأفراد لمدد غير محددة من دون محاكمة. إلى جانب هذه السجون المعروفة، هناك مراكز احتجاز تابعة لكل فرع أمني محلي (قسم أسايش، مركز استخبارات، أمن داخلي… إلخ)، وغالباً ما تحتوي هذه المراكز على زنازين صغيرة مخصّصة لما يسمّى "التحويل إلى القضاء"، لكن غالباً دون قضاء فعلي. تقنيات الاعتقال: الأدوات القديمة بأسماء جديدة تؤكّد شهادات متعدّدة من معتقلين سابقين، جميعهم طلبوا عدم ذكر أسمائهم، أن أساليب الاعتقال والاستجواب لا تختلف كثيراً عن التي كانت تُمارس في عهد مخابرات النظام. الضرب، الحرمان من النوم، العزل الانفرادي، التهديد، الإهانة الشخصية، كلها موجودة. اللافت أن معتقلين كثيرين لا يُقدّمون إلى محاكمة، بل يبقون في الحجز "الوقائي" أو "الإداري" فترات قد تمتد شهوراً، بناء على تقرير أمني أو وشاية شخصية. قال لي شاب: "كنت أعملُ مع منظمّة مجتمع مدني، وخلال دورة تدريبية جرى تصويري وأنا أتكلم عن الفساد. بعدها بأسبوع، أخذوني. لم يُوجهوا لي أي تهمة، فقط قالوا: نشاطك لا يناسب المرحلة". لا يوجد إعلام مستقل في الرقّة يمكنه تغطية هذه الانتهاكات أو طرح الأسئلة. كما لا يوجد قضاء حقيقي مستقل يمكن أن يراجع قرارات الاعتقال أو التحقيق. حتى اللجان الحقوقية التابعة للإدارة الذاتية، إن وُجدت، لا سلطة تنفيذية لها. وقوات الأمن الداخلي الكردية (أسايش) تظل الجهة الأقوى، والأكثر تحكّماً، ولا تخضع للمحاسبة أو الرقابة. في النهاية، لم تعد السجون في الرقّة وسيلة لحفظ الأمن أو محاسبة الخارجين عن القانون، بل أصبحت أداة لإعادة إنتاج السيطرة. الصوت المختلف يُخنق، والكلمة تُراقَب، والصحافي يُلاحَق، والناشط يُخفى، والتهمة حسب أحد الناشطين "داعشي". ... وهكذا، باتت المدينة تعيش في "رعب ناعم" لا يُرى في الشوارع، لكنه حاضرٌ في كل بيت وكل هاتف وكل حديث. التنشئة الأيديولوجية حين كان النظام السوري يحكم، اعتاد أن يبدأ بـ"تدجين" الناس منذ طفولتهم، عبر مؤسّسات مثل "طلائع البعث"، و"اتحاد شبيبة الثورة"، حيث يتلقّى الطفل، ومن ثم المراهق، جرعاتٍ متواصلة من تمجيد القائد، وتقديس الحزب، والتلقين العقائدي المستمر. ومع "داعش"، تغيّر العنوان، لكن الجوهر لم يتغيّر، إذ كانت تفرض على السكان "دورات استتابة" لتصحيح عقيدتهم، باعتبارهم "كفّاراً" لا يفهمون الدين إلا من خلال تفسير التنظيم. كانت تلك الدورات تجري تحت ضغط السلاح، وداخل المساجد، وخلف أبواب مغلقة. واليوم، وفي عهد "قسد"، تعود الفكرة نفسها بثوبٍ أيديولوجي جديد، فقد فرضت "الإدارة الذاتية" ما تُعرف بالدورات المغلقة، حول "فكر عبد الله أوجلان وفلسفته"، وهي دورات إجبارية، يخضع لها المعلمون والمعلمات، والموظفون والموظفات، وحتى بعض كوادر المجتمع المدني. الهدف المعلن "رفع الوعي"، لكن الحقيقة أنها منصّات لتلقين فكر مؤسس حزب العمال الكردستاني، وإعادة إنتاج سردية واحدة، لا تقبل بالنقد أو التعدد. ... قال لي معلم: "طُلب مني حضور دورة مغلقة تستمر شهراً عن فكر القائد. قلت لهم إنني لا أمتلك الوقت، وطلبت التأجيل أكثر من مرّة. وعندما استنفدت كل فرص التأجيل، لم ألتحق بالدورة، فما كان منهم إلا أن طلبوا مني تقديم استقالتي فوراً". المجتمع المدني مؤمم وتحت الرقابة الأمنية إذا كانت السجون وجه القمع الخفي، فإن تجفيف المجتمع المدني أحد أذرعه الناعمة. ففي الرقّة اليوم، لم يعد العمل المدني مستقلاً، ولا حتى ممكناً، إلا باشتراطاتٍ تعجيزية. الجمعيات والمبادرات المحلية والدولية مجبرة على التنسيق مع "قسد" بكل ما تقوم به، ابتداء من اختيار المستفيدين، مروراً بالمكان، وانتهاء بصيغة الإعلان. قال لي أحد العاملين في منظمة تنموية محلية، مشترطاً عدم الكشف عن اسمه: "حتى لو أردنا إقامة دورة "تمكين مجتمعي" أو تدريب بسيط في الحوكمة، يجب أن نرسل كتاباً رسمياً، وننتظر موافقة "الأسايش" أو الاستخبارات. ويأتي الرد دائماً بالرفض، والتعليل: "هذا عمل سياسي، عمل أحزاب، وليس من اختصاصكم". طوال سنوات، تجنبتُ توجيه نقد جذري لقوات سوريا الديمقراطية، انطلاقاً من قناعتي بأنها تمثل غالبية الأكراد، وإيماني العميق بأن هزيمتها تعني هزيمة للأكراد دفع هذا الواقع ناشطين كثيرين إلى تجميد عملهم، أو الاكتفاء بفعالياتٍ شكلية لا تحمل أي مضمون حقيقي. لكن من اختاروا الاستمرار يحاولون المناورة ضمن هامش ضيق جداً. وقال لي ناشط في منظمة تعمل على تعزيز الوعي القانوني: "هم يعملون على تجهيل المجتمع، ونحن نعمل عكس ذلك. ولذلك، يعتبرون كل نشاط توعوي عملاً سياسياً معادياً". أكّد أغلب من تحدّثت إليهم أن الرقابة لا تقتصر على الأنشطة، بل تطاول الأشخاص أنفسهم. في كل منظمة توجد "عين أمنية"، ترفع تقارير عن طبيعة العمل، والأشخاص المشاركين، والممولين، وحتى طبيعة النقاشات الجانبية داخل الورش. وهكذا، لم يعد المجتمع المدني في الرقّة مساحة للتعبير أو للمبادرة، بل تحوّل إلى جهاز ملحق بالإدارة الأمنية، يعمل في إطار مرسوم سلفاً، ويُمنع تجاوزه تحت طائلة الاتهام بـ"التحريض"، أو "العمل لأجندات خارجية". قال لي ناشط ثالث من منظمة محلية: "في كل مرّة نريد تنظيم نشاط جديد، علينا أن نضع قفازات سياسية، ونختار كلماتنا بعناية، وإلا فسنُتّهم بتخريب الاستقرار. نحن نعيش في رقابة ناعمة لا تختلف كثيراً عن أجهزة النظام القديمة". النتيجة؟ مجتمع مدني مشلول، يشتغل تحت السقف المسموح فقط، بلا حيوية، ولا استقلال، ولا قدرة على إحداث أثر حقيقي. طاقات كثيرة شابة انسحبت، أو غادرت، أو اختارت الصمت. الرقة اليوم بلا حياة مدنية حقيقية، بل فقط "ديكور" لجذب تمويل خارجي، يُعاد تدويره ضمن قنوات السلطة. أين تذهب الرقّة؟ لم يعد سكان الرقة منشغلين بالشعارات الكبرى عن الديمقراطية أو الفيدرالية أو حتى الانتخابات. أسئلتهم أبسط وأكثر إلحاحاً: لماذا لا تُنظّف شوارعنا؟ لماذا تنقطع الكهرباء معظم اليوم؟ لماذا يتولّى إدارتنا أشخاص بلا كفاءة؟ لماذا يختفي المعتقلون من دون أثر؟ ولماذا لا يرانا أحد؟ وأكثر عبارة تكرّرت على مسامعي خلال وجودي في المدينة كانت جملة قالها كثيرون بلهجة عفوية "قسد مثل المستأجر المؤقت، يعرف أنه سيرحل بعد سنة أو سنتين، لذلك لا يُصلح شيئاً في البيت". وهذه ليست أسئلة سياسية نظرية، بل أسئلة حياة تمسّ تفاصيل العيش اليومي. ومع ذلك، تُجاب عادة بالصمت أو التجاهل، أو تُواجه بتصريحات دعائية لا تغيّر من الواقع شيئاً. الخطر هنا أن تراكم هذه الأسئلة بلا إجابة، وتحولها إلى همّ يومي مشترك، يفتح الباب أمام انهيار أي شرعية يمكن أن تدّعيها السلطة. فحين يعجز الناس عن الحصول على أبسط حقوقهم، لن يهمهم أي مشروع سياسي أو أيديولوجي يُفرض عليهم من فوق. طوال سنوات، تجنبتُ توجيه نقد جذري لقوات سوريا الديمقراطية، انطلاقاً من قناعتي بأنها تمثل غالبية الأكراد، وإيماني العميق بأن هزيمتها تعني هزيمة للأكراد، ولا تُبنى الأوطان على سحق أحد مكوّناتها. فهزيمة "قسد"، في جوهرها، هزيمة لكل السوريين. كنتُ وما زلتُ أتمنّى أن تُسوّى الأمور معها عبر تسوية سياسية تحفظ حقوق الجميع، فالأكراد مكوّن تاريخي وأصيل من مكونات سوريا، وقد ذاقوا عقوداً طويلة من القمع والحيف. جاءت الثورة السورية، ورغم أن "قسد" وقفت ضدها وكانت جزءاً من قوى الثورة المضادة، فإنها كانت أكثر المستفيدين من مكاسبها، إذ سيطرت على المشهد، وأقصت جميع القوى الكردية الأخرى، لتصبح الرقم الأصعب في المعادلة السورية. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل استثمرت "قسد" هذه الفرصة لإقامة حكم رشيد في مناطق سيطرتها (الرقة، دير الزور، الحسكة)، وهي أهم ثلاث محافظات في سورية، وأرض الثروات الأساسية فيها؟ تفيد كل الوقائع بأن "قسد" أرست حكماً شمولياً ديكتاتورياً، سيأتي اليوم الذي تذروه الرياح. فبعد أن تنفّس السوريون هواء الحرية وسقط نظام بشار الأسد، لن يقبلوا بحكم هجين يحاول إعادة إنتاج نموذج البعث. "قسد" تسعى لإبقاء عقارب الساعة متوقفة: تحتكر الموارد، تكمّم الأفواه، وتعتقل كل من يجرؤ على انتقادها. بعد زيارتي أخيراً الرقة، وجدت نفسي أمام أزمة ضمير. أدركت أن الصمت على سياسات "قسد" صار خيانة وتواطؤاً. وأقولها صريحة، للأكراد قبل العرب، إن "قسد" تضعنا جميعاً في مأزق تاريخي لن ننجو منه. في تلك الزيارة، كان القبح يصفعك في كل مكان. الرقّة، المدينة الوادعة، تحولت بعد ثماني سنوات من حكم "قسد" إلى مدينة بائسة: فوضى عارمة، بناء عشوائي، فوضى مرورية قلّ نظيرها، أكوام قمامة في كل شارع وزاوية، ومساحات خضراء ذبلت لتصبح أراضي جرداء. أما المناصب الحساسة فشغلها أميون لا يعرفون القراءة والكتابة "من يحرّر يقرّر"، فيما القانون غائب، والفساد ينخر في كل مفاصل الحياة. لماذا يكره أهل الرقّة "قسد"؟ عندما زارني وفد "قسد" في منزلي خلال إقامتي في الرقّة، لم أُجمّل الحقيقة، ولم أستخدم كلمات دبلوماسية. قلتها كما سمعتها من الناس، ومن كل من التقيتهم من مختلف الطبقات والخلفيات: "لم ألتقِ أحداً يحبّكم… الجميع يكرهكم". وتابعت: "وهذا مؤشّر خطير، هل تدركون معناه؟".  لم يكن هذا رأياً سياسياً، بل خلاصة ميدانية. لم يأت هذا الكره الجماعي من فراغ، بل هو نتاج ثماني سنوات من الإهمال، والتمييز، واحتقار الناس في تفاصيل حياتهم اليومية، لأنهم لم يروا من "قسد" شيئاً يستحق الاحترام: لا خدمات حقيقية، لا بنية تحتية، لا عدالة في التوظيف أو التوزيع، لا مؤسسات تمثّلهم، لا إعلام مستقلاً، ولا حتى مجرّد استماع لصوتهم. لم تتصرّف "قسد" يوماً كسلطة انتقالية، تحترم واقعاً اجتماعياً متنوّعاً، بل كقوة أمر واقع، تنفّذ مشروعاً أيديولوجياً خاصاً بها، وتفرضه على الجميع تحت مسمّيات "الإدارة الذاتية" أو "أخوة الشعوب". لكنها، في الواقع، تعيد إنتاج أدوات الهيمنة القديمة: الولاء بدل الكفاءة، الصمت بدل المشاركة، الرقابة بدل الحوار، والاحتكار بدل التعدّد. ربما تعتقد "قسد" أن استمرار الفوضى، وغياب البديل، يُطيل عمر سلطتها. وربما تراهن على تعب الناس، وعلى أن لا أحد يريد إعادة الانزلاق إلى الفوضى الأمنية. لكن الحقيقة الأعمق أن هذه الفوضى لن تحميها، بل تُنذر بانفجار قادم. فكل نظام أهمل الناس، وأهان كراماتهم، وسدّ أمامهم أبواب المستقبل، ظناً أنه الأقوى، انهار حين لم يكن يتوقع. لا يحمل سكان الرقّة السلاح، ولا يهتفون في الشوارع. لكنهم يتحدثون، يتهامسون، يشتكون، يراقبون، ويعدّون الأيام. ... الثقة مفقودة، والمشهد قاتم، ولكن الذاكرة حية… والناس، كما يقال، قد يصبرون، لكنهم لا ينسون. تنويه: قد تبدو لغة هذا التحقيق غاضبة وغير حيادية. والسبب أن معدّه ابن الرقة، وقد هاله ما أصاب مدينته من إهمال وخراب بعد كل ما مرت به. كما أن غياب رأي "قسد" مبرّر، لأن التحقيق أُنجز بسرّية تامة، ولأن "قسد" لا تتسامح عادة مع أي عمل نقدي أو ميداني مستقل.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows