
Arab
شهدت ستينيات القرن التاسع عشر، واحدة من أقسى فترات العمل القسري في تاريخ مصر الحديث، حين جرى تسخير مئات الآلاف من الفلاحين في شق الصحراء بأدوات بدائية لنحت مجرى قناة السويس. كثيرون لقوا حتفهم نتيجة العطش والأوبئة والإنهاك، فيما طُويت معاناتهم بعيداً عن التوثيق البصري. هذه المأساة، التي سجلها المؤرخون ولم تسجلها الكاميرا، تعود إلى الواجهة اليوم عبر معرض في باريس تحت عنوان "حفر قناة السويس – صور لويس روبير كوفييه".
المعرض الذي استضافه متحف أورسيه (Orsay Museum)، قدّم ألبوماً نادراً من الصور التوثيقية التي التقطها المصور الفرنسي كوفييه بين عامَي 1866 و1867، أي قبل افتتاح القناة بعامَين. هذه الصور، التي صُنفت في زمانها واحدة من أوائل الريبورتاجات الفوتوغرافية عن المشروع، توثّق لحظة فارقة في تاريخ مصر والعالم، لكنها تكشف أيضاً عن الوجه الانتقائي للتصوير بوصفه أداةً دعائية ناشئة، إذ تُبرز ما تريد الشركات والسلطات إبرازه، وتتجاهل ما لا يخدم صورتها.
يحتوي ألبوم كوفييه مشاهد خلابة للمواقع المحيطة بالقناة، وآلات الحفر البخارية التي استُقدمت حديثاً، والجسور الترابية الممتدة وسط الرمال. يظهر المشروع في هذه الصور إنجازاً هندسياً ضخماً يجسّد روح الحداثة الغربية في الشرق. لكن خلف هذه الكادرات المنمقة، غابت المعاناة الإنسانية أو هُمشت تماماً داخل المشهد؛ فالمصور لم يلتقط صوراً لآلاف العمال المصريين الذين سُخّروا قسراً، ولا لضحايا الأوبئة التي تفشّت في معسكرات الحفر. المؤرخ عبد الرحمن الرافعي يذكر في كتابه "عصر إسماعيل" أن عدد العمال الذين جُنّدوا بالسخرة بلغ نحو 300 ألف، مات منهم عشرات الآلاف نتيجة الظروف القاسية. جمال حمدان بدوره يشير في كتابه شخصية مصر إلى أن القناة كانت مشروعاً استعمارياً بامتياز، هدفه خدمة الملاحة العالمية وربط المستعمرات الأوروبية بالدول المستعمِرة، أكثر مما كان مشروعاً وطنياً مصرياً.
يستعيد المعرض كذلك البعد الدولي للمشروع، إذ جاءت هذه الصور في وقت تنافست فيه فرنسا وبريطانيا على السيطرة على طرق التجارة إلى الهند. القناة، بالنسبة إلى الإمبراطوريات الأوروبية، لم تكن مجرد إنجاز هندسي، بل ورقة استراتيجية في لعبة النفوذ. ولعل مشاركة صور كوفييه في المعرض الدولي في باريس عام 1867، كانت جزءاً من هذا الصراع الدعائي؛ فقُدّم المشروع معجزةً هندسية فرنسية على أرض مصرية. لم يكن مستغرباً، إذن، أن تتجاهل هذه الصور الوجوه السمراء المتعبة التي صنعت بدمها وعرقها هذا الممر المائي. فالمعرض يوثق رؤية المستعمرين للمشروع، لا رؤية المصريين أنفسهم. إنها عين الكاميرا التي تنتقي ما يخدم خطاب القوة والهيمنة، وتحذف ما قد يشوّش على هذه الصورة.
محلياً، كانت مصر في عهد الخديوي إسماعيل تخطو نحو تحديث على الطريقة الأوروبية، بمظاهر عمرانية واحتفالية صاخبة، بينما ينوء الفلاح تحت أعباء الضرائب والسخرة. القناة، التي استغرق شقها عشر سنوات من الحفر بين 1859 و1869، تحولت إلى رمز لهذه الازدواجية، بين مشروع عالمي ضخم يُحتفى به في العواصم الأوروبية، لكنه استنزف موارد البلاد وأرواح أبنائها. وقد اضطر إسماعيل في النهاية إلى بيع أسهم مصر في القناة عام 1875 لبريطانيا لتسديد ديونه، ما فتح الباب أمام السيطرة البريطانية الكاملة لاحقاً.
معرض متحف أورسيه لا يقتصر على عرض صور قديمة، بل يدفعنا إلى إعادة التفكير في كيفية صناعة الصورة التاريخية. فالصور التي التقطها كوفييه لم تكن مجرد توثيق عابر، بل إنّها جزء من ماكينة إعلامية ودبلوماسية سعت إلى إظهار المشروع في صورة تحفة تكنولوجية تخفي خلفها واحدة من أبشع صور الاستغلال العمالي في تاريخ مصر الحديث. إنه معرض عن التناقضات، بين ما تراه العين في الصور من خطوط مستقيمة لقناة تشقّ الصحراء، وما يرويه المؤرخون عن دماء الفلاحين التي روت رمالها.
وبين الكاميرا التي احتفت بالآلات، والتاريخ الذي يشهد أن أيقونة الحداثة تلك بُنيت على أكتاف بشر عاديين لم يُذكروا بالاسم، ولم يُخلّدوا في الصور. لهذا؛ لا نستطيع النظر إلى هذه الصور بوصفها وثائق محايدة، بل تذكير بكيفية صناعة السرديات الرسمية، وكيف يمكن للتاريخ أن يُكتب بعدسة المصور بقدر ما يُكتب بقلم المؤرخ. وربما يكون أهم ما يتيحه المعرض هو فتح النقاش حول ما لم تصوّره الكاميرا، عن الإنسان الغائب من الكادر، وعن ثمن الإنجازات التي نحتفي بها. يظل حفر قناة السويس علامة فارقة في التاريخ المصري والعالمي، ولكن، علينا أن نتذكر دائماً بأنّ وراء كل إنجاز هندسي عظيم، قصة بشرية أعمق، وأحياناً أكثر مأساوية؛ قصة لا ترويها الصور وحدها، بل يكملها التاريخ والذاكرة الجمعية للشعوب.

Related News

اتفاق على وقف فوري للنار بين دمشق و«قسد»
aawsat
13 minutes ago

«الحرس الثوري» يتأهب صاروخياً للتهديدات
aawsat
17 minutes ago

الذهب يكسر عتبة 4 آلاف دولار
للمرة الأولى في التاريخ
aawsat
21 minutes ago