Arab
عادت بي الذاكرة إلى ذلك الصباح المؤلم في 11 سبتمبر/ أيلول 2001، حين اصطدمت طائرتان مدنيتان ببرجي التجارة العالمية، فدمّرت حياة آلاف الأبرياء. حينها وقّع 60 مثّقفاً أميركياً بياناً للإجابة عن السؤال: "لماذا يكرهوننا؟". وكان من الموقّعين أسماء كبرى شغلت العرب والمسلمين وغيرهم سنوات، مثل فرانسيس فوكوياما، مؤلف كتاب "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، وصموئيل هنتنغتون، صاحب نظرية "صدام الحضارات". وفي تلك الرسالة حاول هؤلاء ممارسة نوع من النقد الذاتي لفهم الأسباب التي تقف وراء كراهية الآخرين لأميركا، فاعترفوا على سبيل المثال بأن بعض القيم الأميركية التي تُروّج كانت مؤذيةً لمجتمعاتٍ عديدة، مثل الحرية من دون ضوابط، والفردية المطلقة... إلخ.
بعد مرور هذه السنوات على ذلك الحدث المهم، ومع اندلاع حرب الإبادة على غزّة، هل أدرك هؤلاء المثقّفون، ومن لحق بهم، الأسباب الحقيقية التي جعلت الأغلبية الواسعة من سكّان العالم يُجمعون على اعتبار أميركا بقيادتها السياسية والمالية والعسكرية والثقافية خطراً على الحضارة والأمن والسلام والحرية والعدالة؟
رغم أن دونالد ترامب من أصول ألمانية، يبقى نتاجاً أميركياً خالصاً. شخصيته مستفزّة لكلّ من عرفه والْتَقاهُ. نظرته إلى العالم سطحية وفقيرة إلى حدّ مرعب، حتى أصبح لعبةً في أيدي الصهاينة، وجعلوا منه مدافعاً غبياً عن جرائمهم البشعة. وكلّما انغمسوا أكثر في عالم الجريمة ازدادت غطرسته وعنفه. ويخطئ من يعتقد أنه يختزل وحده الشرّ الأميركي حالياً، بل يشاركه في ذلك ملايين الأشخاص الذين جعلوه "إمبراطوراً" للعالمين. فالمرشّحة السابقة للانتخابات الرئاسية، كاميلا هاريس، أقرّت في مذكّراتها بأن جو بايدن هو مَن منح نتنياهو فرصة غزّة، والفتك بأهلها، ثمّ تولّى ترامب إتمام المهمّة. لقد أصبحت أميركا إمبراطورية الشرّ بامتياز.
رغم الاختلاف الجوهري بين حركة حماس و"القاعدة"، استمرّت بعض وسائل الإعلام الأميركية تتعمد الخلط بين التنظيمين، مستغلّةً المخزون النفسي المعادي الذي خلّفته أحداث سبتمبر في نفوس الأميركيين، بهدف تبرير الهولوكوست الجديد. لقد سقطت كل القيم، وتلاشت جميع المبادئ. وعندما تكشّفت الصورة كاملةً، وقاطعت أغلب الوفود خطاب نتنياهو في الأمم المتحدة، هاجم ترامب الجميع، وهدّدهم بعقوبات مالية وسياسية. صحيح أنه اجتمع بعدد من قادة الدول العربية والإسلامية، وقدّم لهم مشروع خطة تضمّنت قدراً من المعقولية، من شأنها وقف الإبادة وإنهاء حلم التهجير وإلغاء ضمّ الضفة، لكن ترامب اعتبر أن هذه الخطة وُضعت أساساً لإنقاذ إسرائيل التي وجدت نفسها معزولةً ومنبوذة. وفي المقابل، طالب بتجريد "حماس" من أسلحتها، وبإبعادها من المشاركة في إدارة المرحلة المقبلة. وبالروح الاستعلائية نفسها يريد تنصيب توني بلير لإدارة غزّة لاستكمال ما بدأه بلفور (1917).
لا يُعرف مصير هذا المقترح، وكيف سيتصرّف معه الإسرائيليون، لكن الكلفة كانت باهظةً على جميع الأصعدة، في حين كانت الفرصة متاحةً لإنقاذ الأرواح، لو تم التعامل مع القضية بأسلوب عقلاني وحكيم. لهذا تساءل كثيرون: هل يصلح شخص بهذه الأخلاق لقيادة بلد مثل أميركا، وأن تحبه شعوب الأرض، وأن يُمنح جائزةَ نوبل للسلام؟
على المثقّفين الأميركيين ممارسة نقد ذاتي أكثر عمقاً وشمولاً. عليهم مواجهة أنفسهم بشجاعة وجرأة، إذ يتحملون مسؤوليات جزء واسع من أزمات العالم. لم تعد هناك جرائم تحصل في الخفاء، فالمؤامرات والصفقات تجري تقريباً على المباشر وأمام الجميع. أيها المثقّفون الأميركيون! غادروا مناطق الظلّ واهجروا سراديب المؤامرات الخفية، وحرّروا أنفسكم وأرواحكم من براثن الخبث والشرّ والطمع والخوف، وأعلنوها صريحةً "نريد فكّ القيود من رقابنا، وتحرير أرواحنا من قبضة الشياطين الممسكة بها"، فالشوارع المنتفضة في أغلب مدنكم، وشبابكم الذين بُحَّت حناجره من أجل إنقاذ الفلسطينيين من قاتليهم، دليل قاطع على أن السياسة الأميركية فقدت كل منطق وكل شرعية، وأصبحت أشبه بسياسات العصور الغابرة، وبسبب هذه السياسات أسرعت الحضارة الخطى نحو حتفها. فغزّة لن تموت وحدها، وإنما ستندثر معها الإنسانية والخير والجمال والفنّ، وبذلك تعود البربرية لتقود العالم من جديد.

Related News
ناغلسمان يسعى لتبديد الشكوك حول قدراته
aawsat
7 minutes ago
انطلاق بطولة السهام السعودية بمشاركة 350 رامياً ورامية
aawsat
13 minutes ago