
Arab
تحلم الشابة الجائعة بالعمل في مخبز. الآلات تعجن وتقطع وتصفّف الخبز والحلوى. ماذا ستفعل الشابة؟ تتحمّل الوقوف بجانب فرن تحت أرضي، طيلة النهار. تعمل بين مخبز وحانة. إذا توقّفت عن العمل، فكم من الوقت يُمكنها البقاء حيّة؟ أقلّ من يوم.
يحتاج البائسون إلى المال دائماً. لا خيارات لهم. من هذا المأزق، وُلدت حبكة "الليل يأتي دائماً" (Night Always Comes، إنتاج 2025) لبنجامن كارون.
ما أندر البدائل! توجد النقود وراء النار والدم. لذا، رسمت الأحزان الاقتصادية جدول أعمال البطلة الفقيرة.
ما الذي أنت مُستعدّ لفعله، للحصول على سكن في المدينة؟ تعرض الشابة نفسها لإنقاذ منزلها. سيُفسّر ملاحظ أعمى ذلك بأنّ في المجتمع أزمة قيم. الحقيقة في مكان آخر. العقار ملك. هناك الأغنياء الذين يملكونه ويستمتعون، والفقراء الذين يكدحون ليأكلوا. الحاجة أم الاختراع. الحاجة أم الجريمة. إنّها الطريقة الوحيدة للحصول على المال من دون كلفة. تمضي الشابة بالسيارة بين العمارات. يبدو العقار كبيراً جداً، لكنّ الشابة لا تملك غرفة. لكشف المقارنة، صَوّر كارون المدينة من فوق كغابة ومتاهة، ثم لقطة لسيارة الشابة تتقدّم في منطقة مظلمة. تظهر سيارات الأمن. وحدهم رجال البوليس يملكون الوسائل ليديروا الغابة بكفاءة. في هذه الغابة الإسمنتية، المال نادرٌ، والزمن خانق. يسوء الوضع حين يجتمعان. "لا تكمن الثنائية في الأشياء، بل في علاقاتها". ما أقسى نقص المال والزمن.
يدبّر السرد الزمن باقتصاد، لتجنّب الملل. تجري الأحداث في أقل من 12 ساعة.
المشكل الأبدي: تنقص نقودٌ الآن. الزمن لا يرحم، كالنقود. تعرفون هذا الوضع. كم مرة عشتموه؟ كيف أثّر على أعصابكم؟ الجواب في قصة.
يلتقط الفيلم أثر الزمن على الأشخاص والأماكن والأشياء. كيف كانت الشابة، وكيف أصبحت. دفعت ثمن المغامرة بسعر الليل. تركض خلف هدف محدود في الزمن. في أزمتها، تذكّرت جميع العشاق الأغنياء الذين تجاهلتهم. مجرمة صغيرة بالمصادفة، تستنجد بمجرم كبير محترف. أفعال الأشرار أكثر إمتاعاً للجمهور.
تستنجد بالرجل، الذي كان عشيقها حين كانت تبلغ 16 عاماً. صار البحث عن المال فرصة لتصفية حساب قديم. ترك الماضي بصمته على الحاضر. تسمع الشابة كلمات قاسية من أمّها، تساعدها لتكتشف حقيقة وجهها في المرآة. لم تكن لديها طاقة للتصالح مع ماضيها. تلتقطها الكاميرا من الخلف، وظهرها مجروح.
تنبيه: صنّف منتجو "الليل يأتي دائماً" بأنّه واقعي. تسمح اللمسة الواقعية بمقارنته والواقع، وهذا مرجعه. الواقعي هو الحقيقي الذي جرى. المتخيّل تصوّرته كاتبة السيناريو ساره كونراد، لكنّه محتمل الوقوع. الفن تصوير محاكاة الواقع، لا الواقع نفسه. الواقع وضجيجه متوفر 24 ساعة/اليوم. ما المسافة بين الواقع ومحاكاته؟
عندما تغلب النزعة السوسيولوجية التحليلية على السرد الفيلمي، سيضمر الخيال، ولا يتحرّر من الواقعية الشديدة. تريدون تعبيراً أسلوبياً عن هذا؟
الكاميرا محمولة على كتف الكاميرامان (المُصوّر السينمائي داميان غارسيا) ماشياً خلف الشابة، لتكون الصورة مزعزعة. هذه علامة على تجذّر الفيلم في بيئته، وليس مستعاراً من "قص ولصق". لا تدّعي السينما تطويع الواقع. لن يأتي فارس الأحلام إلى المخبز ليقدّم للشابة خاتماً نحاسياً. الواقع قاسٍ. "هناك عودة إلى سينما الواقع في زمن صعب"، هذا قاله ألبرتو باربيرا، المدير الفني لمهرجان فينيسيا، بالتزامن مع الدورة 82 (27 أغسطس/آب ـ 6 سبتمبر/أيلول 2025).
يحتاج المشاهدون إلى عودة الأفلام الواقعية. هذا تذكير بالواقع في زمن طوفان الذكاء الاصطناعي. إنّه مجرّد ظاهرة لغوية. ما دام أنّه لن يُقلّل الجوع، يبقى فقاعة خطابية ولونية وصوتية، لا تحقّق الاكتفاء الغذائي والفني.
هذه العودة طمأنة لكلّ من يخاف على السينما من الصُّور المُولَّدة بالذكاء الاصطناعي. كل صورة تفتقد المحاكاة والمرجع، بلا قيمة معرفية أو عاطفية. ستكون صوغاً لونياً شكلياً. هكذا يضرّ الذكاء الاصطناعي بمصداقية الصور. تصير صورة بصفر كلمة، بدل صورة بألف كلمة.
يحيل الفيلم إلى واقع يتجرّعه الفقراء. شابة تواجه أحزانها الاقتصادية في قاع المجتمع، حيث الزحام والفوضى. ما أندر البدائل.
هذه واقعية بشعة بصفر حلم، وهروب إلى الأمام. لا يستطيع الخيال تطويع الواقع الاقتصادي.
كيف يسدّ الفن ثغرات الكينونة الحديثة؟ هذا دور السينما. مهمة الحكاية والفيلم إنارة طريق المشاهد بالأسئلة: ما حلمك؟ ما وهمك؟ كيف تشفى منه؟ كيف تتعايش معه، وربما تسعد به؟ كيف يعرف الفرد هويته؟ بعائلته. حين تنكسر العائلة بسبب الأنانيات، ماذا يبقى؟
بعد كل الجهد، اكتشفت الشابة حقيقة مريعة. تتلقّى كل ابنة أفظع الشتائم من أمها. لا جدوى من ترقيع ما لا يُرقّع. في عائلات كثيرة، تكون المغادرةُ الحلَّ. ناضلت الشابة ما يكفي من أجل عائلتها. تقطع مع النضال بالوكالة من أجل الآخرين، لتبدأ نضالها من أجل نفسها. اللقطة: طريق سيّار يتجه إلى الأفق. الشمس في عمق الكادر.

Related News

الضرب في طبل التاريخ
alaraby ALjadeed
36 minutes ago