
في كل صباح، تتكئ الطفلة ندى منصور على عزيمتها ودعم والدها لتشد رحالها نحو المدرسة، متجاوزة نظرات الشفقة ولسعات التنمّر، فالإعاقة التي خلفتها حرب الحوثيين لم تقف عائقًا أمام طفلة ترفض الاستسلام وتتحدى الواقع رغبة في استكمال مشوارها التعليمي، فثمة حلم يسكنها؛ وتسعى جاهدة لأن تصبح في المستقبل القريب مدافعة عن المظلومين، وتحوّل ألمها الشخصي إلى رسالة مفادها: “قد تبتر الحرب يدًا، لكنها لا تستطيع أن تنتزع الإرادة أو تصادر الحلم”.
حطب مفخخ
في حي التوفير شرق مدينة تعز، استقرت أسرة منصور البريهي بالقرب من خطوط التماس، بعد نزوح إجباري من حي “الأربعين” شمال المدينة، الذي تحول إلى ساحة مفتوحة للقنص والقصف العشوائي، لكن الهروب ليس كافيًا، فالسكن في الأجزاء الشرقية يعني الاقتراب أيضًا من الموت.
نظرًا لطبيعة العيش في تلك المناطق، وانعدام مقومات الحياة واحتياجات السكان الأساسية، غادرت الطفلة ندى رفقة شقيقتها نداء، صباح يوم السابع من أكتوبر 2022، يحملان على كاهلهما الصغير مهمة يومية تتمثل بجمع “الحطب” واستخدامه بدلًا عن الغاز المنزلي، فحصار الحوثيين فرض على الساكنين في المناطق القريبة من جبهات القتال أن يعيشوا ظروفًا قاسية، حيث أصبح جمع الحطب مهمة محفوفة بالمخاطر، بل مغامرة قد تنتهي بمأساة.
تروي ندى تفاصيل لحظة غيّرت حياتها، “خرجت مع أختي الكبيرة نداء صباح يوم الجمعة، اتجهنا نحو الحي المجاور نبحث عن الحطب من أجل نعود إلى المنزل ونقوم بتدفئة الماء لوالدي.. عندما تقدمنا خطوات قليلة، وجدتُ كمية صغيرة من الحطب اليابس، حاولت سحبها، وفجأة دوى انفجار هائل، واختفى كل شيء من أمامي”.
تتوقف برهة، ثم تتابع حديثها لـ منصتي 30: “تصور أن صوت الانفجار ما زال في أذني.. لم أشعر إلا وجسدي يسقط أرضًا، والدماء تنزف من وجهي ويدي.. كنت أصرخ من شدة الألم والفزع، وأسمع أختي تصرخ (أنقذونا)، في تلك اللحظة كنا نحاول أن يصل صوتنا إلى أي شخص قريب يقوم بإسعافنا وينقذ حياتنا”.
لم تكن ندى تتوقع أن تلك الأغصان اليابسة التي مدت يدها لسحبها كانت فخًا قاتلًا؛ بل شظايا موت زرعها الحوثيون في تراب المدينة بصورة عشوائية، ودون خرائط في مكان خالٍ من وجود أي لوحات تحذيرية تُوحي بأن المنطقة مزروعة بالألغام أو ملوثة بمخلفات الحرب.
“أن تكون طفلًا في تعز، وتخرج إلى جوار منزلك، يعني أن تدخل حقلًا من الألغام دون أن تعلم”، كما تقول ندى، التي تؤكد أن عشرات النساء والأطفال تعرضوا لنفس الحادثة، فالبعض منهم فقد حياته، وآخرين شُلت أجسادهم وصاروا يعيشون اليوم إعاقة كاملة، والكثير من الضحايا المدنيين فقدوا أطرافهم لكنهم ما زالوا يحلمون بغدٍ أفضل ويحاولون التغلب على الصعوبات.
دعم الأسرة
نالت ندى القسط الأكبر من الألم؛ وحملت ندوب الحرب في جسدها الصغير؛ حيث خرجت من بين شظايا الانفجار بعين واحدة، وأخرى مصابة، ووجهٍ تغيرت ملامحه بفعل الشظايا، ناهيك أنها فقدت يدها اليمنى، أما شقيقتها لم تكن بأوفر حظًا؛ إذ باتت تسير بقدم مكسورة، وشريان ممزق، وجسد منهك بالجراح في مشهد يختزل قسوة الحرب وبؤس الطفولة في زمن الصراع.
وبعد رحلة علاج طويلة ومضنية، عادت ندى إلى المدرسة تحمل القلم في يدها اليسرى، التي باتت تؤدي ما كانت تفعله اليمنى، تكتب دروسها بصعوبة، وتقلب صفحات دفاترها بحذر، بينما تجلس في الصفوف الأمامية لتتمكن من الرؤية بعينها الوحيدة.. تتجلى معاناة الطفلة كمرآة تعكس وجعًا مزدوجًا، وواقعًا مشتركًا يفيض بالشقاء، ويختصر مآسي جيل لا يعرف من الحياة سوى الألم.
هكذا اختارت ندى أن تواجه الواقع بإصرار طفلة قررت ألا تُهزم، في مجتمع قد يراها مجرد ناجية من انفجار، لكنها في الحقيقة تخوض يوميًا معركة صامتة لاستعادة حياتها ومواصلة تعليمها، حيث يقف والدها داعمًا وسندًا، يرافقها في كل خطوة، ويحرص على عدم توقف مسيرتها التعليمية مهما كانت التحديات.
محامية الضحايا
تمتاز ندى بلسان فصيح وموهبة استثنائية في سرد معاناتها بلغة شفافة وعفوية، تتقاطع فيها الطفولة مع الوعي المبكر، كما تُجيد توظيف السخرية كأسلوب للمقاومة، وتضفي على حديثها لمسة آسرة من البراءة الممزوجة بالنضج، فتتحوّل مأساتها من قصة ألم إلى رواية تحدٍّ نابضة بالحياة.
تراود ندى أحلامًا كثيرة على هيئة أمل مفقود، إذ ترى في المنام نفسها تركض وتمدّ يدًا لم تعد موجودة، وتستيقظ على واقعٍ مختلف، حيث الجرح لا يزال حاضرًا، والحسرة لا تفارقها، ومع ذلك، لا تتخلى عن حلمها بأن تصبح محامية يومًا ما، لا لتدافع عن نفسها فحسب، بل لتحاكم من تسبّب في إعاقتها وإعاقة غيرها من الأطفال الذين دفعوا ثمن الحرب دون ذنب.
آثار مستقبلية
تقول القاضية إشراق المقطري، عضوة اللجنة الوطنية بالتحقيق في ادعاءات حقوق الإنسان في اليمن: “بالنسبة للمكان الذي تسكنه الأختين ندى ونداء البريهي، يُفترض أنها قد مُسِحت من قبل فرق الألغام، لكن يبدو أن جماعة الحوثي زرعت الألغام بشكل كبير وعشوائي في المنطقة التابعة لمديرية صالة، خرجت الطفلتان إلى مكان مجاور لمنزلهما بحثًا عن الحطب، نظرًا لعدم توفر مادة الغاز وارتفاع أسعارها في تلك الفترة، فضلًا عن تدهور الوضع المادي للأسرة”.
تضيف المقطري لـ منصتي 30، “للأسف أن هذه صورة من صور المعاناة الناتجة عن زراعة الألغام وسط الناس وفي المناطق التي يذهب إليها عادة الأطفال والنساء دائماً للاحتطاب أو توفير المياه.. وتعد هذه من ضمن الأدلة والبراهين على المنهجية التي تتبعها جماعة أنصار الله (الحوثيين) في زراعة الألغام في مناطق يعيش فيها مدنيين أطفال ونساء إضافة إلى مرور أحيانا الحيوانات”.
وتوضح المقطري أن مأساة الألغام قد تمتد لسنوات قادمة، نظرًا لأن الألغام خاصة الفردية متحركة وصغيرة، إذ قامت جماعة الحوثي بزراعة الألغام بأشكال مختلفة، ومع مواسم الرياح والأمطار الأمر يؤدي إلى سحبها من مكان إلى آخر وبالتالي حدوث كوارث غير متوقعة، وهذه أحد الأضرار والمآسي التي ينظر إليها من مخاوف المستقبل.
وتشير المقطري إلى أن زراعة الألغام لا تعتبر انتهاك فقط مباشر أو مرحلي بمجرد انفجار اللغم والفتك بأحد ضحاياه من البشر، بل هناك آثار أخرى مستقبلية، لا سيما أن الجماعة الحوثية زرعت الألغام في مناطق زراعية وأماكن مرور الموارد والمساعدات الغذائية.
وتؤكد أن ضحايا الألغام وضعهم يختلف عن باقي الضحايا، إذ يتحولون من أشخاص طبيعيين يمارسون حقوقهم ويزاولون حياتهم بشكل طبيعي؛ إلى وضع الإعاقة الدائمة مع صعوبة التمتع بحقوق مختلفة وممارسة الحياة بشكل طبيعي، وبالتالي إنصاف هؤلاء الضحايا يجب أن يكون بشكل متعدد الجوانب، يصل إلى حقوق وإنصاف للأسرة بكاملها والتي تتحول إلى جهة معينة للضحية.
وتشدد القاضي إشراق المقطري على ضرورة النظر لهذه الانتهاكات بشكل مختلف ومحاسبة المتورطين في زراعة هذه الألغام من قبل أعضاء وقيادات جماعة الحوثي في كافة المحافظات اليمنية.
وفي هذا السياق، تشير بيانات وزارة حقوق الإنسان في الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً إلى أن الألغام التي زرعتها جماعة الحوثي، المصنفة كمنظمة إرهابية، تسببت في مقتل 4,501 مدني وإصابة 5,083 آخرين، منذ اندلاع الحرب في البلاد عام 2014 وحتى العام 2024.
ويُعدّ اليمن واحداً من أكثر دول العالم تلوثًا بالألغام الأرضية، في ظل اتهامات مستمرة للحوثيين بزرع كميات ضخمة من الألغام والعبوات الناسفة في الطرق والمزارع ومحيط التجمعات السكانية، ما تسبب في مآسٍ إنسانية مستمرة تطال المدنيين، لا سيما الأطفال والنساء.
ويواجه ضحايا الألغام في اليمن تحديات كبيرة في الحصول على الرعاية الصحية والتأهيل، في ظل تدهور النظام الصحي وانعدام الإمكانيات، ما يزيد من معاناتهم ويؤخر فرص عودتهم إلى حياتهم الطبيعية.
The post الألغام بترت يدها، لكنها لم تسرق حلمها! appeared first on منصتي 30.