
في خطوة تكشف إصرار مليشيات الحوثي على تفكيك ما تبقى من الدولة، أعلن الحوثيون عن سك عملة معدنية جديدة من فئة 50 ريالا، بذريعة استبدال الأوراق التالفة، لكن الحقيقة أن القرار لا علاقة له بأزمة السيولة، بل هو امتداد لمشروع الانفصال النقدي، وتجريف النظام المالي لصالح اقتصاد الحرب.
رفض وتحذير حكومي
سارع البنك المركزي اليمني في عدن إلى إصدار بيان شديد اللهجة، مؤكدا أن هذه العملة "مزورة" وصادرة عن كيان لا يملك أي صلاحيات سيادية أو قانونية، واصفًا الإجراء بأنه "عبث تدميري" وحلقة جديدة من الحرب الاقتصادية التي تشنها الميليشيا على الشعب اليمني، ويهدف إلى "نهب مقدرات ومدخرات المواطنين" وتمويل شبكاتها المقاتلة.
وأضاف البنك أن "هذا الفعل التصعيدي الخطير من قبل ميليشيات الحوثي يُطيح بإعلان 23 يوليو 2024 الصادر عن المبعوث الدولي، والذي تم برعاية إقليمية ودولية"، محذرا المؤسسات المالية والمواطنين من التعامل بهذه العملة التي تعرّض المتورطين لمخاطر قانونية جسيمة.
انتهاك لاتفاق دولي
قرار سك العملة يمثل خرقا فاضحا لاتفاق التهدئة المصرفية الذي رعاه المبعوث الأممي هانس غروندبرغ في يوليو 2024، والذي نصّ بوضوح على إلغاء الإجراءات النقدية المتبادلة بين الحكومة والحوثيين، ووقف إصدار أي قرارات مماثلة مستقبلا.
بهذا القرار كما غيره من الإجراءات السابقة، يرسل الحوثيون رسالة تحدي مباشر للمجتمع الدولي، مفادها أنهم لا يرغبون في أي حلول تعزز وحدة الاقتصاد اليمني، بل يسيرون بخطى ثابتة نحو خلق نظام نقدي موازٍ ومفصول في مناطق سيطرتهم.
وتعليقا على هذه الخطوة، يقول الباحث الاقتصادي وفيق صالح "هذه الخطوة تمس سيادية العملة الوطنية، وتعمل على تكريس الانقسام النقدي والاقتصادي، وتجزئة المؤسسات النقدية والمالية، علاوة على تداعياتها السلبية على القطاع المصرفي، ومضاعفة الصعوبات أمام ممارسة الأنشطة المالية والمصرفية في البلاد."
وأضاف في تصريحات للصحوة نت :"إعلان العملة في هذا التوقيت، على الرغم من القيود الدولية المفروضة على الحوثيين، هو رسالة مناورة سياسية بأنهم ما زالوا يمتلكون القدرة على اتخاذ قرارات أحادية تتحدى البنك المركزي الشرعي وتتجاوز صلاحياته."
عبث اقتصادي ممنهج
ما أعلنه الحوثيون لا يتعدى كونه إصدارًا غير قانوني من كيان لا يملك أي اعتراف أو صلاحية سيادية لإدارة السياسة النقدية في البلاد. فالبنك المركزي في صنعاء بات مجرد أداة بيد مليشيات مسلحة، تستخدمه لفرض وقائع اقتصادية تخدم مشروعها المذهبي والسياسي، دون أي التزام بقواعد الاقتصاد أو اعتبارات مصلحة المواطنين. والعملة المعدنية ليست سوى محاولة يائسة لتضليل الرأي العام وإعطاء طابع "سيادي" لكيان غير شرعي.
المواطن هو الضحية
لا يمكن لهذه الخطوة أن تُعالج أزمة السيولة كما يزعم الحوثيون، بل ستضاعف تعقيدها، ذلك أن سك عملة دون غطاء قانوني أو نقدي حقيقي يُفقد الثقة بالعملة نفسها، ويفتح الباب أمام مزيد من الفوضى في سوق الصرف المتفاوت في الأسعار والذي يعكس انهيار التنسيق المالي في البلاد، ولجوء الحوثيين إلى أدوات تخريبية بدلا من الحلول التشاركية.
من جانبه، يصف المحلل الاقتصادي فارس النجار الخطوة الحوثية بأنها:"ليست عبثية بل ممنهجة، تستكمل مشروع الجماعة في فرض واقع يفصل ما تبقى من وحدة العملة والمؤسسات النقدية".
كما أعاد التذكير ببيان المبعوث الأممي الذي أشار صراحة إلى ضرورة وقف هذه الإجراءات، كما جاء في منشوره في فيس بوك.
من جهته، شدد أستاذ الاقتصاد بجامعة تعز الدكتور محمد علي قحطان على أن "استمرار سك العملات النقدية من قِبل مليشيا الحوثي سيعمق الانقسام أكثر، ويفاقم التحديات الاقتصادية والإنسانية، وأن غياب أي رد حازم من الشرعية سيسمح بفرض أمر واقع في تقسيم اليمن سيكون من الصعب جدا التراجع عنه".
خطورة السكوت على سياسة الحوثي
السكوت على هذه التصرفات سيؤدي إلى فرض أمر واقع يصعب التراجع عنه، وإذا استمرت الحكومة اليمنية والمجتمع الدولي في التعاطي بردود فعل ضعيفة، فإن الحوثيين سيواصلون سياسة قضم الدولة من داخلها، لا عبر البنادق فقط، بل عبر سك العملات، وتشريع الجبايات، وتحويل الاقتصاد الوطني إلى رهينة لخدمة مشروع طائفي خطير.
إن إصدار عملة معدنية من فئة 50 ريالا يمثل تصعيدا اقتصاديا ممنهجا، مما يتطلب ردا حقيقيا لا يقتصر على بيانات الشجب، بل يستدعي موقفا وطنيا ودوليا صلبا يضع حدا لاستخدام العملة كسلاح سياسي، ويمنع جماعة خارجة عن القانون من الاستمرار في تجريف ما تبقى من الاقتصاد اليمني.
وفي هذا السياق، يرى الباحث الاقتصادي وفيق صالح، أن هذه الخطوة لا يمكن فصلها عن طريق الحوثيين نحو "اللاعودة في الانفصال النقدي وتجزئة العملة ومضاعفة الاعباء والتحديات المالية على المواطنين".
ويتابع قائلا "هذه الخطوة لن تحل أزمة السيولة لدى الجماعة، بل ربما تؤدي إلى تكريس وضع نقدي واقتصادي قائم، أبرز سماته التعارض والتناقض مع أسس الاقتصاد الحديث، ومضاعفة الجبايات وتدمير حرية السوق، وإدارته عبر البطش والتنكيل".
إن سك العملة المعدنية من قبل مليشيات الحوثي لا يمكن فصله عن مشروع أوسع لتفكيك اليمن اقتصاديا ومؤسساتيا، وفرض أمر واقع يُعيد تشكيل الدولة على أسس اقتصاد حرب مغلق.
إن مسؤولية التصدي لهذا الانفصال النقدي تقع على عاتق الحكومة الشرعية أولا، وعلى المجتمع الدولي ثانيا، فالصمت لم يعد خيارا، والرد لا يجب أن يظل حبيس التصريحات، بل يجب أن يرتقي إلى مستوى الفعل.
Related News

