
يمثل الاقتصاد الريفي في اليمن شريان الحياة الرئيسي للسكان الذين يعيشون في مناطق تفتقر إلى الحد الأدنى من الخدمات، ويعتمدون على الزراعة وتربية المواشي وصناعات غذائية بسيطة لتحقيق الاكتفاء الذاتي، وتوفير دخل مستمر لتأمين لقمة العيش.
في عزلة “العوشقي” بمديرية موزع في محافظة تعز، يعد إنتاج الجبن العوشقي واحدا من أبرز الأنشطة الاقتصادية المحلية التي تراجعت بشكل كبير بسبب الجفاف، ما أثر مباشرة على معيشة العشرات من الأسر، بينهم الحاج علي زيد (60 عاما)، الذي لطالما اعتبر الجبن مصدرا أساسيا للعيش.
مصدر أساسي للعيش
يؤكد الحاج زيد لمنصة ريف اليمن أنه كان يمتلك أكثر من 50 رأسا من الأغنام قبل اندلاع الحرب، وكان يعتمد عليها كمصدر أساسي للعيش، إذ توفر له اللبن لإنتاج كميات وفيرة من الجبن العوشقي الذي اشتهرت به المنطقة، وكان يصدره بشكل يومي إلى سوق البرح الشعبي في مديرية مقبنة، والذي يستقطب آلاف المتسوقين من محافظتي لحج وتعز.
لكن الحرب أجبرته على النزوح، وتسببت بخسارة أكثر من نصف ثروته الحيوانية، إما بسبب انفجار الألغام أو هروب الأغنام أثناء تنقله من مكان إلى آخر، ويضيف قائلا:”لم يتبق لدي سوى عشر رؤوس من الغنم، بالكاد تغطي احتياج أسرتي من اللبن والجبن، وفي أحيان قليلة أبيع بعضها في سوق مفرق المخا بمبلغ لا يتجاوز 5000 ريال كل ثلاثة أيام، وهو مبلغ زهيد لا يغطي متطلبات الحياة، في ظل الجفاف وشح المراعي.
مواضيع مقترحة
-
ريف تعز: أطفال يبيعون الخبز لأجل العيش
-
حليب الأبقار.. طوق نجاة الأسر الريفية في الحديدة
-
مهمشو ساحل لحج: العيش من الأحجار الصماء
ويشير زيد إلى أن منازل قرية العوشقي كانت لا تخلو من وجود الجبن البلدي، الذي يمثل مصدر دخل رئيسي للأسر الريفية، لكنه تراجع بشكل حاد خلال السنوات الأخيرة، نتيجة الجفاف وقلة الأمطار، إضافة إلى فقدان أعداد كبيرة من الأغنام.
لافتا أن بعض هذه المواشي تتجه إلى مناطق المواجهات العسكرية بحثا عن الحشائش، فتنفجر بها الألغام، فيما تموت أخرى جراء السيول وانهيار حظائرها الطينية خلال العواصف المطرية.
قطاعات متعددة
ويؤكد زيد أن المواطن الريفي لم يعد يعتمد على مصدر رزق واحد، بل صار ينوع من وسائل العيش، فتارة يعتمد على الجبن، وتارة على إنتاج الفحم من الأشجار، وأحيانا من الزراعة أو جمع الأحجار وتهذيبها لبيعها، في محاولة شاقة للبقاء ومواجهة متطلبات الحياة.
هذا النموذج الريفي المتكرر لا يقتصر على صناعة الجبن، بل يشمل قطاعات متعددة كزراعة وطحن الحناء، وتربية النحل، ومنتجات الألبان كالسمن البلدي والحقين، إضافة إلى الزراعة بمختلف أنواعها، وكلها أنشطة تشكل العمود الفقري لاقتصاد الأرياف اليمنية التي تستمر بالإنتاج رغم شح الموارد وغياب البنية التحتية، وتعقيدات الوصول إلى الأسواق.
في منطقة “بير جابر” بمديرية تبن محافظة لحج، تحولت مجموعة من النساء إلى عماد أساسي في دورة الإنتاج الريفي، من خلال تشغيل معمل صغير لإنتاج الحقين والسمن البلدي، حصلن عليه بدعم من منظمة دولية وبات يمثل مصدر عيش لهن في سبيل توفير لقمة العيش.
يعتمد المشروع على عمل تشاركي من عدد من النساء يتوزعن الادوار بين تربية الابقار وحلبها ومن ثم نقلها الى المعمل حيث تقوم هناك عدد اخريات من النساء بالاشتغال في المعمل ووضع المنتجات في علب خاصة قبل نقلها للمحال والبقالات التجارية.
وتقول ليلى ناصر، وهي إحدى العاملات في المشروع، “نحن من نقوم بتربية الأبقار، حلبها، ونقل الحليب إلى المعمل، مشيرة أن منتجاتهن تلقى رواجا شعبيا كبيرا، لكونها طبيعية وغير صناعية”.
وتضيف ناصر لمنصة ريف اليمن،”: نواجه تحديات كبيرة في توفير الأعلاف لأكثر من 7 بقرات، إلى جانب نقص القوارير البلاستيكية، وتهالك السيارة التي تستخدم في التوزيع، وارتفاع أسعار المشتقات النفطية، وعدم توفر منظومة طاقة شمسية تمكن من تشغيل نظم ري الزراعة”.
في السياق ذاته، تنتشر في ريف لحج سبعة معامل لطحن الحناء، تشغل أكثر من 84 امرأة ريفية بدعم من الصليب الأحمر الدولي. وتقول نوف جمال، وهي عاملة في أحد المعامل، إن هذا النشاط ساعد النساء على التحول من العمل الفردي إلى سوق منظم”.
مشيرة أن العمل يمر بمراحل الزراعة والري والقطف والطحن والتغليف والتوزيع على الأسواق، لافتة أن الأرباح الشهرية توزع بالتساوي بين العاملات بعد خصم النفقات التشغيلية.
كفاح بصمت
ويؤكد المتخصص في الشأن الاقتصادي، محمد الجماعي، أن المواطن اليمني يعتمد بنسبة 90% على الاقتصاد غير الرسمي، ولا يعول كثيرا على الدولة أو اقتصادها الرسمي، إذ أن الدولة – حتى في أفضل حالاتها كما كان في عام 2014 – كانت تدفع مرتبات لنحو مليون و250 ألف موظف، بينما تبقى الغالبية العظمى، البالغة أكثر من 29 مليون مواطن، خارج هذه المنظومة، ومعظمهم من سكان الريف.
ويشير الجماعي إلى أن المواطن الريفي يعتمد بدرجة أساسية على الزراعة، وعلى ما يزرعه ويحصد من منتوجات محلية، فضلا عن التحويلات المالية من أقاربه المغتربين، والتي تمثل رافدا مهما لاستمرار دورة الحياة.
ورغم غلاء الأسعار، إلا أن هناك عوامل تعوض هذا الأثر، بحسب الجماعي، فمثلا من يزرعون القات يعتمدون على قيمته السوقية في شراء احتياجاتهم الأساسية، فيما يعتمد من يزرعون المحاصيل الأخرى – خصوصا في المحافظات الواقعة تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دوليا – على بيع منتجاتهم بأسعار السوق المرتفعة، وهو ما يمنحهم قدرة شرائية أفضل نسبيا مقارنة بسكان المدن.
ويؤكد الجماعي أن أوضاع الريف – ولا سيما الأرياف الزراعية – تبقى أفضل من أوضاع المدن، لأن سكانها يعتمدون على ذواتهم وينتجون ما يستهلكونه، رجالا ونساء، صغارا وكبارا، أما الفقر، فإنه يزداد كلما اقتربت من المدن، بعكس ما كان عليه الحال في السابق، حين كانت المدن تمثل وجهة أبناء الريف بحثًا عن العمل والوظيفة.
ويضيف الجماعي: “اليوم لم تعد الوظائف متاحة، ولم تعد المدينة قادرة على الصمود، بل أصبح البقاء في الريف هو الخيار الوحيد لمن يستطيع أن ينتج غذاءه أو يزرع ويحصد أو حتى لمن لم يعد قادرا على مغادرة قريته نحو المدينة التي تزداد حالتها سوءا يوما بعد يوم”.
وفي ظل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة، يواصل سكان الريف الكفاح بصمت، معتمدين على مهاراتهم التقليدية ومواردهم المحدودة، في مشهد يعكس صمودا لافتا للسعي نحو حياة كريمة، وإن كانت مريرة، في وجه حرب مستمرة دون أفق للحل.
The post الاقتصاد الريفي: كفاح مستمر من أجل البقاء first appeared on ريف اليمن.