
الرشـــــــــــاد برس | تقاريـــــــــــــــر
في ظلّ تصاعد التحديات الاقتصادية التي ترخي بظلالها الثقيلة على البلاد، تتصدّر أزمة تأخّر صرف المرتبات المشهد بوصفها أحد أبرز مظاهر الاختلال في الإدارة المالية بمناطق الحكومة الشرعية. ورغم خطورة تداعياتها على الأمن المعيشي والاجتماعي، لا تزال الوعود الرسمية تفتقر إلى الآليات الجادّة والفعّالة، ما يجعل الموظف – لا سيّما في القطاعات الحيوية كالتعليم والصحة – ضحية مباشرة لعجز إداري ومالي مزمن.
دوّامة الوعود والتأجيل
في الوقت الذي يستند فيه الخطاب الحكومي إلى وعود متكرّرة بحلول وشيكة، تتفاقم يوميًا معاناة آلاف الموظفين. إذ يشكو كثيرون من انقطاع أو تأخّر الرواتب لفترات تجاوزت الشهرين، في ظلّ تصاعد مؤشّر أسعار السلع الأساسية والخدمات، ما يحوّل حياة الكثيرين إلى صراع يوميّ من أجل البقاء.
عبدالقوي الصبري، أحد الكوادر التربوية في محافظة تعز، يروي تفاصيل الأزمة من قلب الميدان، قائلًا:
“نحن الآن في أغسطس، ولم نستلم بعد راتب يونيو. وحتى وإن كان الراتب لا يغطي سوى نصف احتياجاتنا، إلا أنه يمثّل شريان حياة لا غنى عنه. تأخّره يعني الوقوع في عجز دائم أمام متطلّبات الحياة اليومية”.
ويشير الصبري، إلى أن جوهر الأزمة لم يعد محصورًا في توقيت الصرف فحسب، بل أصبح مرتبطًا بفقدان الثقة في انتظام المرتبات، ما دفع بعض الموظفين إلى البحث عن أعمال إضافية رغم التزاماتهم الرسمية، وهو مؤشّر خطير على تآكل الانتماء الوظيفي وتراجع كفاءة الخدمة العامة.
ودعا الصبري، وزارة المالية إلى تحمّل مسؤولياتها، مطالبًا بإجراءات عاجلة لصرف المستحقّات، إلى جانب تحديث منظومة الرواتب بما يتناسب مع الكلفة المعيشية المتصاعدة، وتوفير ضمانات دورية لانتظام الصرف.
توثيق زمني للاختلالات
على مدى الأعوام القليلة الماضية، وثّقت تقارير إعلامية وميدانية سلسلة من التأخيرات في صرف المرتبات، توضّح نمطًا متكرّرًا من العجز الإداري والمالي:
أكتوبر 2023: صرف المرتبات تم في نهاية الشهر بعد أزمة سيولة.
ديسمبر 2023: تأخير بسبب إغلاق السنة المالية.
مارس 2024: صرف جزئي شمل قطاعات دون أخرى.
نوفمبر 2024: صرف متأخّر امتدّ إلى منتصف ديسمبر.
يوليو 2025: وعود حكومية بالصرف دون تنفيذ حتى مطلع أغسطس.
تُظهر هذه المؤشّرات، بما لا يدع مجالًا للشك، أنّ المشكلة لم تعد ظرفية، بل باتت هيكلية، وتعكس غياب رؤية إصلاحية مستدامة قادرة على كسر دائرة التأجيل المستمر.
تشخيص اقتصادي
الباحث الاقتصادي -وليد أمان-، من عدن، يقدّم قراءة تحليلية لجذور الأزمة، موضحًا أنّ المشكلة لا تتعلّق بشحّ الموارد فحسب، بل بتراكم أخطاء إدارية واستراتيجية. ومن أبرز هذه العوامل:
1. توقّف صادرات النفط:
منذ أكتوبر 2022، أدّى استهداف المنشآت النفطية إلى شلل شبه كامل في عمليات التصدير، ما تسبّب بخسارة أكثر من 65% من إيرادات الدولة، بحسب تقديرات رسمية. وقد شكّل ذلك ضربة قاصمة للخزينة العامة.
2. التحوّل إلى النظام المصرفي:
رغم كونه خطوة نحو الشفافية، إلا أنّ تطبيق صرف المرتبات عبر البنوك مطلع عام 2024 تعثّر نتيجة ضعف البنية التحتية المصرفية في بعض المحافظات، ما فاقم من تأخيرات الصرف بدلًا من حلّها.
3. الاعتماد على الدعم الخارجي:
ربط صرف المرتبات بالدعم الخارجي من مانحين إقليميين ودوليين جعل المالية العامة رهينة لتقلبات سياسية ومعوّقات فنية في آليات التسييل، ما أخرج القرار المالي عن السيادة الوطنية.
4. الإغلاق السنوي للحسابات:
في نهاية كل عام مالي، تتكرّر أزمة التأجيل بسبب تعقيدات المطابقة المحاسبية وإجراءات إغلاق الحسابات، ما يسلّط الضوء على ضعف الإجراءات المالية الاستباقية.
الحلول الممكنة
يؤكد الباحث الاقتصادي- صادق هلال-أن الأزمة تستدعي مقاربات مزدوجة، تبدأ بإجراءات إسعافية عاجلة، وتُستكمل بخطوات هيكلية بعيدة المدى. ويقترح هلال ما يلي:
إعطاء الأولوية لصرف المرتبات من الموارد المحلية المتاحة.
تفعيل الدعم الخارجي وفق ضوابط صارمة تضمن الشفافية وتمنع التسرب المالي.
استئناف صادرات النفط بآليات حماية فعّالة تعزّز الإيرادات المستدامة.
إعادة هيكلة قاعدة بيانات الموظفين وربطها بنظام رقمي موحّد لمحاربة الازدواج الوظيفي والرواتب الوهمية.
تعزيز الشفافية والمساءلة عبر مؤسسات رقابية مستقلة.
ويختتم- هلال- بالقول:
“الأزمة الحالية ليست مجرّد عجز مالي، بل مرآة لفشل إداري عميق. لا يمكن الحديث عن تعافٍ اقتصادي دون إصلاح جوهري في إدارة المال العام، يُعيد ثقة المواطن بمؤسسات الدولة.”
خاتمة: الاستقرار يبدأ من العدالة المعيشية
تتعدّى أزمة المرتبات حدود المعاناة الفردية لتتحوّل إلى أزمة وطنية تُهدّد السلم الاجتماعي وتضعف الأداء المؤسسي. وفي ظلّ غياب حلول واضحة، يجد الموظف اليمني نفسه في مواجهة مفتوحة مع غموض المستقبل، وقد باتت المطالبة بأبسط الحقوق – كصرف الراتب – معركة يومية بحدّ ذاتها.
إنّ التعاطي مع هذه الأزمة بمنطق الترحيل أو التسويف لا يخدم سوى تعميق الفجوة بين الدولة والمجتمع. وحين يُهمَل الإنسان، تتقوّض أسس الدولة ذاتها.
إنها لحظة اختبار حقيقية للقيادة الحكومية: إمّا انتهاج مسار شفاف وشجاع لإصلاح الاختلالات، أو الاستمرار في دائرة الوعود التي لا تُطعم جائعًا، ولا تُسدّد دينًا.