
في زمنٍ غابت فيه المشاريع التنموية وتخلّت الدولة عن دورها في احتواء الأزمات، وقف الجميع حائراً أمام التحديات المتفاقمة، لكن المرأة برزت كشريك حقيقي في التنمية، وسند فاعل للمجتمع.
ومن بين تضاريس الجبال الوعرة سطعت بسمة علي القباطي كقائدة لمبادرة مجتمعية أعادت الأمل لأهالي مديرية القبيطة بمحافظة لحج، جنوبي اليمن (محافظة تعز سابقاً)، لم تنتظر وعود الدولة، ولم تستسلم لشح الإمكانات، بل شحذت همم الأهالي، وطرقت أبواب الخير، لتحوّل الحلم إلى حقيقة، فشقّت طريقاً يربط القرى المعزولة، ويختصر المسافات، ويوفر فرصة لحياة أكثر أمناً واستقراراً.
ولدت بسمة محمد القباطي في القبيطة، ونشأت في بيئة محافظة، حملت في داخلها طموحاً لا تحدّه الجغرافيا، وعزيمة لا تضعف أمام التحديات، انتقلت في شبابها إلى صنعاء، وهناك واصلت تعليمها و تخرّجت من جامعة الإمارات بتخصص الفيزياء الكيميائية، ولم يثنها تخصّصها العلمي عن الانخراط في العمل التطوعي، خصوصاً في المناطق المهمشة التي طالها الإهمال وغابت عنها الدولة.
بداية الطريق
بدأت قصة بسمة مع العمل التطوعي حين صادف مرورها بجوار مساكن لفئات المهمشين، حيث شهدت حادثاً مأساوياً، سيارة مسرعة صدمت طفلة وألقتها على الطريق، تقول بسمة: “كانت صرخة الطفلة كافية لإيقاظ شعور دفين داخلي، شعور بالمسؤولية لا يهدأ، وإرادة لا تعرف الانكسار، هرعت لإسعاف الصغيرة، لكن الحادث لم يكن مجرد لحظة مؤلمة، بل نقطة تحوّل في حياتي”.
لم تقف بسمة عند حدود إسعاف الطفلة، بل دفعتها هذه الحادثة لتأسيس جمعية تُعنى بالدفاع عن حقوق المهمشين، إيماناً منها بأن التغيير الحقيقي يبدأ من رعاية أضعف فئات المجتمع، ومنذ تلك اللحظة، أصبحت عوناً لكل محتاج، تقود المبادرات وتكسر حواجز الصمت والتجاهل.
تقول بسمة: “بدأت بخطوات بسيطة، إلى أن تمكّنت من تحقيق إنجاز ملموس تمثل في شق طريق (نجد زاكي – شعب البقر – عيريم) بطول 500 متر، يربط بين قرى نائية في المنطقة”.
هذا الطريق، الذي أطلق عليه السكان اسم “قناة السويس القبيطة”، غير مجرى حياة آلاف الناس، واعتُبر شريان حياة جديد يخفف من معاناتهم اليومية، حيث يختصر مسافة تزيد عن 6.5 كيلومترات، ويربط بين قرى (الشرفين، الرثاوية، الهجيمة، القرنة، نجد الزاكي، القراصعة، والشعب)، ويخدم أكثر من 10,000 نسمة.
ويصف الناشط المجتمعي جعفر شاهر الوضع السابق بقوله: “الطريق القديمة كانت مصيدة موت تتعرج بين الجبال، وتتآكل بفعل الأمطار، وسط غياب كامل لأي صيانة”.
وتابع” كم من مريض مات قبل أن يصل، وامرأة وضعت طفلها على ظهر حمار بين الصخور، و حالة نزيف أو كسر لم نجد لها وسيلة إسعاف، لأن الطريق لم تكن تسمح حتى بمرور دراجة نارية”.
من هنا، كانت مبادرة بسمة في شق طريق “نجد زاكي – شعب البقر – عيريم” بمثابة إنقاذ حقيقي، حيث خفّفت من مخاطر التنقل، وفتحت منفذاً آمناً لمرور الدراجات النارية والسيارات الصغيرة، ما أدى إلى تقليل الحوادث، وسهّل الوصول إلى المدرسة والمركز الصحي والسوق. “خدمات أساسية لم تكن متاحة من قبل”، كما يؤكد شاهر.
الحلم الذي كاد أن يتوقف
لطالما شكلت الطرق الوعرة والمنقطعة في مديرية القبيطة خطراً دائماً على حياة السكان، خاصة في ظل الحرب المستمرة التي ضاعفت من معاناة التنقل، ورفعت وتيرة الحوادث المؤلمة، كالسقوط والانقلاب في المنحدرات الجبلية.
تروي بسمة القباطي: “لم يكن المشروع مجرد فكرة عابرة، بل ضرورة حتمية فرضتها قسوة الطبيعة، كان الأهالي يضطرون لعبور طرق خطرة للوصول إلى المدارس والمراكز الصحية والأسواق”.
وتضيف بأسى: “النساء كنّ الأكثر تضرراً، إذ تعرضن للسقوط أثناء حمل المياه والحطب، وكثيرات فقدن أطفالهن لعجزهن عن الوصول إلى المستشفيات في الوقت المناسب، وهنّ يسلكن طرقاً متعرجة محفوفة بالمخاطر”.
وتتابع بسمة، وهي تراقب بأمل اكتمال المرحلة الأخيرة من الطريق الذي يمر بين قريتين: “نحن نواجه المستحيل، ولا يزال أمامنا مشوار طويل للتخلص من مشقّات السفر” إلا أن هذا الحلم، الذي بدأ يتحقق شيئاً فشيئاً، يواجه اليوم خطر التوقف بسبب شحّ التمويل، فبعد إنجاز معظم مراحل المشروع بتبرعات مجتمعية من الأهالي والمغتربين، بقيت 20 متراً فقط تتطلب استكمالها مبلغ 30 ألف دولار، بينما لم تتجاوز مساهمة السلطة المحلية 1,500 دولار، ويزيد من تعقيد الأمور صعوبة التضاريس الجبلية، وبعض الإشكاليات مع ملاك الأراضي.
جهود مجتمعية لا تعرف اليأس
لم تكن بسمة وحدها في هذا التحدي؛ فقد التفّ حولها الأهالي والمغتربون وساهموا بما يستطيعون، كلٌ حسب قدرته، بين المال والجهد والعمل الميداني.
يقول جميل علي، أحد المساهمين في المبادرة “هذه مبادرة أهلية بدأت كحراك مجتمعي بعد أن توقّف العمل الحكومي، اعتمدنا على تبرعات شحيحة”.
ويضيف: “كنت ضمن الفريق الأول، وتوليت مسؤولية جمع التبرعات في عدن والمناطق المجاورة، بالإضافة إلى متابعة الجوانب الإدارية والميدانية”.
وشكلت القبيطة ملتقى تعاوني للأعمال والمبادرات الأهلية المجتمعية لتتصدر أعمال بسمة أرشيف المبادرات.
أما الناشط المجتمعي جعفر شاهر، فيصف بسمة بأنها “القلب النابض” لهذه المبادرات، قائلاً: “هي من تقود العمل المجتمعي، تنشئ المجموعات، تطرق الأبواب، وتبادر في جمع التبرعات، لا تنتظر دعم الحكومة، بل تخلق الحلول بنفسها وتنجز المشاريع رغم شح الإمكانيات.”
لكن رحلة بسمة لم تتوقف عند شق الطرقات؛ فقد امتدت جهودها إلى مجال التعليم أيضاً، ففي مدرسة “العباس”، التي بُنيت في العام 1988 بإمكانات بسيطة من الأهالي، بادرت بسمة إلى ترميمها بالكامل، مهيئة بذلك بيئة تعليمية أفضل للأطفال بعد عقود من الإهمال، وتركت بصماتها في العديد من القرى.
ويشير شاهر في ختام حديثه: “بسمة نموذج ملهم للمرأة الريفية القوية، تجمع بين العلم، والخبرة، والإرادة، ونحن اليوم ننظر إلى حجم الإنجاز، ونتمنى أن تحظى هذه المشاريع بدعم مستدام، لأنها ضرورة ملحّة لحياة كريمة في هذه المناطق المهمشة”.
من المناصب الرسمية إلى الميدان
شغلت بسمة القباطي في وقت سابق منصب وكيل قطاع الأمومة والطفولة في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وهو منصب يُعد من أبرز المواقع الرسمية التي تُعنى بقضايا الفئات الضعيفة، لكن بسمة، التي لم تكن ترى في المكاتب وجهاً كافياً للتغيير، قررت لاحقاً التفرغ الكامل للعمل التطوعي، من خلال الجمعية التي تنتمي إليها، إيماناً منها بأن العطاء الحقيقي يبدأ من الميدان، لا من خلف المكاتب.
هذا التحول لم يكن مجرد قرار وظيفي، بل قناعة راسخة بضرورة الاقتراب من الناس، وتحويل احتياجاتهم إلى مشاريع ملموسة، ولعبت دوراً في تنفيذ مشاريع تنموية شملت قطاعات متعددة، من الصحة والتعليم، إلى دعم المجتمع وبناء قدراته، ونجحت، من خلال برامجها، في تمكين نحو 650 امرأة من سكان صنعاء القديمة، عبر منحهن قروضاً صغيرة مكّنتهن من إنشاء مشاريعهن الخاصة، والخروج من دائرة الفقر إلى فضاء الإنتاج والاستقلالية.
ولعل مشاركاتها المتعددة في دورات تدريبية محلية ودولية، مكنتها من أن تصبح مدربة معتمدة في مجال إعداد وإدارة المشاريع، وهي اليوم تسخّر هذه الخبرات وتترجمها إلى مشاريع تنموية على الأرض.
تقول بسمة “نفذت برامج تابعة لمنظمات دولية لتنمية الشباب وتأهيلهم، وبناء القدرات، والتدريب المهني، والتنمية الاقتصادية، وفتح آفاق جديدة للعمل، وتحسين ظروفهم المعيشية، والمساهمة في وضع استراتيجيات تنموية طويلة الأمد”.
وتضيف “عملت على تدريب 20 امرأة في مجالات الخياطة، وإدارة المشاريع الصغيرة، وتسويق المنتجات، وساهمت أيضاً في مشروع (رصّ العُقب)، ومنها عقبة الهجيمة، لتحسين الوصول إلى القرى النائية”.
امرأة فتحت الطريق… والوعي
لم تتوقف جهود بسمة القباطي عند شقّ الطرق وتأهيل المدارس؛ بل امتدت لتشمل مشاريع تستهدف تمكين المرأة وخدمة المجتمع بأكمله، فقد أسّست صالة تدريب للخياطة، وجهّزتها بالمعدات اللازمة، ودرّبت النساء على إدارة المشاريع وتسويق منتجاتهن، لتمنحهن بذلك مصدر دخل مستدام في ظل ظروف اقتصادية قاسية.
كما ساهمت في توسعة مسجد “نوبة زاكي”، مؤكدة أن التنمية لا تقتصر على البنية التحتية فحسب، بل تشمل كل ما يعزز من كرامة الإنسان واحتياجاته الروحية والاجتماعية.
وفي منطقة الشرفية، حيث تغيب الخدمات وتُلقى أعباء الحياة على كاهل السكان، أدركت أن النساء هنّ أكثر المتضررين من غياب الخدمات، خاصة في ظل الهجرة المتواصلة للرجال بحثاً عن لقمة العيش.
تقول بسمة: “أنشأنا خزانات مياه بتكاليف بسيطة لتخفيف معاناة النساء اللواتي يقطعن مسافات شاقة من أجل الحصول على الماء”.
لكن طريقها لم يكن مفروشاً بالورود، واجهت في بداياتها مجتمعاً غير مهيأ بعد لتقبّل فكرة العمل التطوعي، وتحديات اجتماعية كثيرة، وصلت أحياناً إلى التشكيك بجدوى ما تقوم به.
ورغم ضعف التمويل، وغياب الدعم الرسمي، وتعدد العراقيل، لم تتراجع بسمة، بل واجهت العقبات بعزيمة لا تلين، مرددة دوماً “يجب أن نُحدث تغييراً في المجتمع”. لم تكن كلماتها مجرد شعار، بل خريطة طريق لرؤية جديدة في العمل الأهلي، تجسّدت على الأرض.
ومع مرور الوقت، تغيّرت نظرة المجتمع، وجد الناس فيها نموذجاً مختلفاً، امرأة تخوض معارك البنية التحتية، وتحمل همّ الطريق كما لو كان هماً شخصياً، لم تعد تُرى كـ”امرأة متطوعة”، بل كقائدة مجتمعية تصنع الفرق بالفعل لا بالقول، وبالمبادرة لا بالانتظار وتحوّلت إلى قصة عطاء، ومصدر إلهام.
يقول جميل، أحد سكان المنطقة: “في البداية كنا مترددين، لكننا رأيناها تعمل معنا خطوة بخطوة، تجتمع، تناقش، وتنزل إلى المواقع بنفسها، اليوم، لا أحد ينكر ما قدمته، بل أصبح الجميع يدافع عنها ويتمنى لها الدعم لتواصل ما بدأته”.
لقد غيّرت بسمة القباطي من خلال مشروع بسيط نظرة الناس إلى دور المرأة في العمل المجتمعي، لم يكن إنجازها محصوراً بشق طريق وسط الجبال، بل كان فتحاً في وعي الناس، وتغييراً في ثقافتهم تجاه أدوار النساء، وهي اليوم تمثّل نموذجاً حيا للمرأة اليمنية التي تصنع التغيير رغم كل الصعاب، وتعيد تعريف التنمية كفعل جماعي، ينبع من الناس ولأجلهم.
The post «بسمة علي» .. امرأة تشق الطرق الجبلية في القبيطة appeared first on منصتي 30.