
بقلم: الدكتور/ مجيب الحميدي
مع انطلاق الاجتهادات الحديثة في الفقه السياسي الإسلامي، سعى عدد من المفكرين الإصلاحيين، وفي طليعتهم جمال الدين الأفغاني ومحمد رشيد رضا، إلى تأصيل الشورى بوصفها ركيزة أساسية لشرعية الحكم الإسلامي. وقد تجاوزت هذه الجهود الرأي الشائع عند الجمهور أن الشورى مُعلِمَة ” إلى الإصرار على إلزاميتها، بوصفها تجسيدًا لمبدأ المشاركة وضمانة للحد من الاستبداد.
في المقابل، بقي التيار السلفي التقليدي متمسكًا بالراي القائل أن الشورى “مُعْلِمة لا مُلزِمة”، مستندًا إلى الفهم الموروث الذي يركّز على مركزية الحاكم الفرد ووجوب طاعته.
كنتُ في السابق من المتحمسين لإلزامية الشورى، وكنت أرى في القول بإعلاميتها تبريرًا للاستبداد. لكنني مؤخرًا بدأت أُدرك أن هذا الجدل – في صيغته المتداولة – يتأسس على خلط منهجي بين مفهومي شرعية الإمرة ومشروعية الأمر.
الشرعية والمشروعية: التمييز الغائب
يشير مفهوم الشرعية إلى أساس السلطة: من أين تستمد الحكم؟ أما المشروعية فترتبط بكيفية ممارسة السلطة: هل تلتزم بالقوانين والعقود التي تأسست بها وهل تصاغ القوانين في مؤسسات شوروية؟
والقرآن الكريم ربط الشورى بالأمر {وشاورهم في الأمر} والأمر يصدر من إمرة شرعية، وشرعية الإمرة ترتبط بإجماع الجماعة المعتبر “الأغلبية الجماهيرية وهذا مذهب أهل السنة والجماعة – كما يوضح ذلك ابن تيمية – وهو يفرّق بدقة بين بيعة الاختيار التي يرشح فيها عدد محدود شخصًا للحكم، وبين بيعة الانعقاد التي تكتمل بمبايعة أغلبية الجمهور.
يقول ابن تيمية عن بيعتي الاختيار والانعقاد لأبي بكر: “لو قُدّر أن عمر وطائفة معه بايعوا أبا بكر وامتنع سائر الصحابة، لم يصر إمامًا بذلك، وإنما صار إمامًا بمبايعة جمهور الصحابة”.
وقد سبقه إلى هذا التمييز الإمام الغزالي حين فرّق بين بيعة عمر لأبي بكر باعتبارها ترشيحًا، واعتبر تحقق الشرعية مرهونًا ببيعة أغلبية الجماهير. وهذا ما نجده أيضًا عند أبي بكر الأصم بصورة أكثر، ونجده لدى كافة مدارس المعتزلة والخوارج الذين قرروا أن إجماع الجماعة هو أصل الشرعية، وإن اختلفوا في تفاصيل آلياتها.
ويرتبط اسم تيار “أهل السنة والجماعة” ذاته بإيمان هذا التيار الذي يمثل عامة المسلمين بأن شرعية السلطة تأتي من الاجتماع السياسي، لا من فرضها بالقوة، وهو ما جعلهم يربطون بين شرعية الجماعة وعدم جواز الخروج عليها.
ونحن نتكلم هنا عن الأصل المعتبر لا عن ملابسات الوقائع التي انحرفت من أصل الأغلبية إلى تبرير طاعة الغلبة، مع تأكيد على أن الغلبة في العصور القديمة كانت بسيوف القادرين على القتال من الجمهور العام، ولم تكن بجيوش مدربة تمتلك أسلحة لا يمتلكها الشعب وتستند إلى دعم خارجي.
وبالتالي، فإن موافقة الأغلبية المعتبرة تمثل أصل الشرعية، في حين تبقى الشورى – في سياق الشرعية – آلية تنظيمية لاختيار المرشح قبل انعقاد البيعة، وهو ما يمكن استشفافه من قول عمر بن الخطاب: “من بايع رجلًا من غير مشورة من المسلمين، فلا يُتابع هو ولا الذي تابعه”.
أي أن الشورى في هذا المقام ليست مصدر الشرعية، بل وسيلة لتنظيم اختيار من يُعرض على الجماعة لبيعة الانعقاد. وفي الدولة الحديثة ينظم العقد الاجتماعي هذه الآليات.
الشورى: أصلٌ لمشروعية الأمر أم لشرعية الإمرة؟
بعد نيل الحاكم شرعيته من الجماعة، تصبح مشروعية قراراته مرهونة بالتزامه بالعقد السياسي، وبالآليات التي ارتضتها الأمة لتنظيم الحكم.
الشورى هنا تُمارَس بوصفها أداة إجرائية ملزمة عندما تُنصّ عليها في العقد السياسي أو الدستور. وهي في القرآن، مرتبطة بـ”الأمر” لا بالإمرة: {وشاورهم في الأمر}، {وأمرهم شورى بينهم}. والتأكيد على شعبية مشروعية الأمر الشوروية هو من باب أولى تأكيدّ على شعبية شرعية التَّأمُر أو الإمرة.
ومن ثم، فإن الإجماع العام هو أساس شرعية الإمرة، أما الشورى فهي أصل مشروعية ممارسة الأمر التنفيذي، الذي ينبغي أن ينسجم مع التشريعات، ويخضع للرقابة المؤسسية من المجالس المنتخبة ومجالس الخبراء. ويجب أن تحضر الشورى في أصل الشرعية عند الترتيب لإجراءات إسناد الولاية أو الاستفتاء الشعبي على العقد الإجتماعي.
ويبدو أن هذا التفريق بين الشورى كأصل لمشروعية الأمر وبين إجماع الأغلبية المعتبرة كأصل لشرعية الإمرة كان واضحًا في ذهن أحمد شوقي حين قال:
الدينُ يسرٌ والخلافةُ بيعةٌ
والأمرُ شورى والحقوقُ قضاءُ
وأرجع أن ترتيب هذه المعاني في البيت كان مقصودًا عند الشاعر؛ لأن شرعية الإمرة تتحقق قبل مشروعية الأمر، فـ”البيعة”- الإسناد الشعبي للولاية – هي أساس شرعية الإمرة، و”الشورى” هي أساس مشروعية إصدار الأمر، إذ لا أمر بلا إمرة، ولا إمرة بلا شرعية شعبية، ولا أمر مشروع إلا بمشروعية شورية واضحة مع هامش متاح للاجتهاد تحدده القواعد المعلنة أو غير المعلنة.
في مقال قادم بمشيئة الله نتناول إشكالية الإلزام والإعلام في الشورى التي نشأت من الخلط بين شرعية الإمرة ومشروعية الأمر مع توضيح وجهة نظرنا بأن الإلزام والإعلام يتعلق بطبيعة قضايا الشورى لا بذات الشورى، وأن المصلحة والتعاقد هما من يحسم الالزامية والإعلامية.
- المصدر: صفحته على الفيسبوك
ظهرت المقالة كتابات فكرية: تفكيك الخلط بين الشرعية والمشروعية في الفقه السياسي الحديث أولاً على يمن ديلي نيوز Yemen Daily News.
Related News
