دار الحجر: تحفة معمارية فوق صخرة يتحدى الزمن
Reports and Analysis
18 hours ago
share

في قلب “وادي ظهر” شمال غربي العاصمة صنعاء (14 كلم) يقع قصر دار الحجر، كتاج شاهق فوق صخرة ضخمة متجذّرة في الأرض، يُحيط بها الجبل من كل الجهات، ويرتفع بنحو 35 متراً عن سطح الأرض في إبداع هندسي نادر.

ويمتد وادي ظهر كلوحة طبيعية وتاريخية متكاملة عند تخوم ريف محافظة صنعاء، ويشكّل القصر أهم معالم الوادي، ويستقطب الزوّار بشكل يومي، خصوصا خلال عطلات نهاية الأسبوع والمناسبات الرسمية والدينية، وكان قبل اندلاع النزاع المسلح في اليمن وجهة للسياح الأجانب.

وشُيّد القصر البديع على أنقاض قصر سبئي قديم عُرف باسم “قصر ذي سيدان” (بناه الحميريون عام 3000 قبل الميلاد)، وفي اسمه إشارة رمزية إلى “قصر ذي ريدان”، المقر الملكي لمملكة سبأ، ويشير اختيار الموقع على عبقرية معمارية بارعة؛ إذ تم تصميمه ليكون حصنا طبيعيا منيعا، ومقرا مهيبا للملوك الحميريين.


      مواضيع مقترحة

أما الهيئة الراهنة للقصر، فتعود إلى عام 1786م، حين أمر الإمام المنصور علي بن المهدي عباس بتشييده، وأسند المهمة إلى وزيره المبدع والمصمم المعماري علي بن صالح العماري. بمهارة فريدة، دمج العماري بين الطوابق الثلاثة الأولى المبنية من الحجر الأسود، وبين بقايا القصر السبئي المنحوتة في الصخر، والتي لا تزال قائمة حتى اليوم.

صورة ملتقطة من عقد قصر “دار الحجر” لوادي ظهر (ريف اليمن/ هديل نبيل)

وادي ظهر

ويقع “دار الحجر” في وادي ظهر الذي يمتد بطول ستة كيلومترات، ويُعد من أقدم مواطن الاستيطان البشري في اليمن، بحسب النقوش الصخرية في الجبل المطل على الوادي من الشمال، حيث تقع بقايا قلعة “دورِم” العتيقة، إلى جانب أطلال قصر ومعبد وآثار منشآت قديمة، تروي جميعها فصولا من حضارة ضاربة في القدم. وعند أسفل قمة الجبل، تظهر بقايا مقابر صخرية نُهبت وعبث بها الزمن.


يُعد وادي ظهر من أقدم مواطن الاستيطان البشري في اليمن بحسب النقوش الصخرية التي أوردت ذكر الوادي في القرن السابع قبل الميلاد


ويعد أول ذكر موثق للوادي يعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، في نقش النصر الموسوم بـ 3945 Res، والذي وثق مرحلة تمدد دولة سبأ إلى المرتفعات الجبلية اليمنية، ومنذ ذلك الحين، أصبح وادي ظهر جزءا من أراضي مخلاف قبيلة “ذي مَأذِن”، إحدى قبائل تحالف “سَمعي”.

أما المؤرخ الحسن الهمداني، فقد خصّ الوادي بذكرٍ في كتابه “الإكليل”، منسوبا إلى “ضَهر بن سعد”، مشيرا إلى وجود نهرٍ غزيرٍ كان يجري فيه على مدار العام، يسقي “جنتي” الوادي على ضفتيه، حيث تنوّعت الفواكه، وبلغت أنواع العنب المزروعة عشرين صنفا.

ورغم أن المياه السطحية قد جفّت، وتراجعت زراعة الفواكه لصالح انتشار القات، إلا أن روح الوادي لم تذبُل؛ فلا تزال المزارع تمتد على الجانبين كمساحات خضراء ساحرة، يحتفظ سكانها بطابعهم الريفي الأصيل، وكرمهم المتأصل، ما يجعل الوادي متنفسا طبيعيا ومحببا لسكان صنعاء وزوارها.

ويمكن الوصول إلى الوادي عبر طريقين رئيسيين: إما من الجهة الشمالية الغربية بعد تجاوز “جولة ضلاع” والانحدار عبر طريق غير معبّدة، أو من الجهة الشرقية، مرورا بقرية “القابل”، حيث يتعرج الطريق غير المعبد حتى يصل الزائر إلى قلب الوادي الذي يتوسطه دار الحجر.

دار الحجر: من الطابق الرابع حتى السماء

ويحتضن دار الحجر في أعماقه سراديب وأسرارا معمارية مدهشة، منها نفق سري يُعتقد أنه كان يستخدم كمخرج طوارئ، ومازال يحتاج إلى دراسات أثرية متخصصة؛ لمعرفة الكثير من خفايا هذا القصر التاريخي العتيق، والذي يُبرز استمرارية الفنون المعمارية اليمنية وتطورها عبر العصور.


يحتفظ دار الحجر بأسرار معمارية مدهشة بحاجة إلى دراسات أثرية متخصصة لمعرفة الكثير من خفايا هذا القصر التاريخي


الكثير من الزائرين يجهلون هذه الخلفية التاريخية العميقة، لكن الوقوف أمام القصر، والنظر إلى تفاصيله المتقنة، يكفي لاستشعار عظمة المكان، ويدفعك للتساؤل عن أسراره التي لا تزال حبيسة الصخور.

يقع قصر دار الحجر في وادي ظهر غربي العاصمة صنعاء ويرتفع عن سطح الأرض بنحو 35 متراً (ريف اليمن/ هديل نبيل)

فعند الطابق الرابع من قصر دار الحجر، تبدأ ملامح التحوّل المعماري؛ حيث تختلف مادة البناء من الحجر إلى الياجور (الطوب المحروق)، وهي مرحلة جديدة من التوسعات التي أضافها الأئمة، لتتحوّل هذه التحفة المعمارية إلى أيقونة متكاملة تُجسد فن العمارة اليمنية التقليدية، ورمزا للسلطة والدولة.

وفي عام 1930م، أحدث الإمام يحيى حميد الدين نقلة نوعية في تاريخ القصر؛ حيث أمر بإعادة ترميمه وتوسيعه، مضيفا إليه طوابق عليا جديدة حتى بلغ عددها سبعة طوابق، تضم عشرات الغرف، منها ما صُمم كأجنحة ملكية متكاملة، تشمل المرافق الخدمية الخاصة. كما شملت الإضافات الحمامات البخارية التقليدية، التي شُيدت إلى الجهة الشمالية قرب القصر، ليبقى وفيّا لوظيفته الأولى كمصيف خاص للإمام وأسرته.

لكن القصر لم يبقَ مجرد منتجع صيفي، بل تحول مع الوقت إلى مقرّ صيفي لإدارة شؤون الحكم، تماما كما كان “قصر السُخنة” بمحافظة الحديدة مقرّا شتويا. ومع هذا التحوّل، أُضيفت منشآت خدمية وإدارية إلى الساحة الخارجية، لتدعم وظائف الحكم.

وكانت آخر توسعة كبيرة شهدها القصر عام 1940م، وشملت بناء ديوان استقبال حديث وفق طراز معماري راقٍ، أضيفت إليه ثلاث نوافير حجرية أنيقة في الساحة الأمامية، أضفت على المكان بُعدا جماليا جديدا، وأكملت صورة القصر كلوحة فنية مكتملة الأركان.

تحفة معمارية: تناغم بين الطبيعة وعبقرية الإنسان

تُدهشك واجهات القصر الأربع من النظرة الأولى، فكل واجهة مختلفة تماما عن الأخرى، حتى يتخيل الزائر أنه أمام مبانٍ متعددة لا مبنى واحد، تتخلل هذه الواجهات نوافذ خشبية تقليدية، مشربيات، وقمريات بأحجام وأشكال متنوعة، معشقة بزجاج ملون، ومحاطة بزخارف دقيقة تنبض بالحياة.

النتيجة مشهدٌ معماري فريد يخطف الأبصار، يروي تفاصيل ثرية من فن العمارة اليمنية، ويعبّر عن ثراء بصري وذوق فني نادر. وكل واجهة من القصر تحكي قصة مختلفة، تمنح الزائر تجربة بصرية لا تُنسى، وتزاوج بين عبقرية التصميم، وبهاء الطبيعة في تناغم إنساني بديع.

وقصر دار الحجر، هو مبعث فخر واعتزاز اليمنيين ليس فقط لفرادته كمعلم سياحي نادر، بل بالهندسة المعمارية العريقة منذ آلاف السنين؛ لأنه يختصر ببنائه المتدرّج، وأروقته المنحوتة، قصة العمارة اليمنية عبر العصور، والتي كانت جزءاً من إبداع اليمنيين تاريخيا.

ويجمع زوّار “دار الحجر” على أن القصر يُعد من أجمل التحف المعمارية اليمنية والعربية، حتى وصفه فرانسيسكو باندرين، المسؤول الأول عن التراث الإنساني في منظمة اليونسكو، خلال زيارته لليمن، بأنه “أعجوبة الدنيا الثامنة”.

ورغم ما يمثله للتأريخ الإنساني، لم تُستكمل إجراءات تسجيل القصر ضمن قائمة التراث العالمي خلال العقود الماضية، إلا أن سفير اليمن لدى اليونسكو محمد جميح أعلن في 9 يوليو/ تموز الجاري، تقديم ملف “دار الحجر” لإدراجه في قائمة التراث العالمي في اليونسكو ضمن 30 موقعاً آخر لمواقع تأريخية وطبيعة.

دار الحجر: تحفة معمارية فوق صخرة يتحدى الزمن
إحدى المجالس في “دار الحجر” بالعقد الملون والنافذة المطلة على وادي ظهر (ريف اليمن/ هديل نبيل)

جولة في عبق التاريخ

الزيارة إلى قصر دار الحجر لا تحتاج سوى شغف بالاكتشاف، وفي ظل غياب المرشدين السياحيين المؤهلين والمعلومات الموثوقة، تبقى التجربة مرهونة بخلفية الزائر الثقافية، ومدى قدرته على تأمل التفاصيل، واكتشاف الجمال بين الحجارة.

تبدأ الجولة عند البوابة الشرقية الخشبية، تتقدّمها شجرة “الطولق” المعمّرة، التي يُقدّر عمرها بسبعة قرون، شامخة كأنها تحرس القصر وتروي تاريخه. بعد اجتياز البوابة، تظهر على يمين الزائر غرفة حراسة، ومعرض للمنتجات الحرفية، يليها باحة حجرية واسعة مرصوفة بأحجار تتماهى في ألوانها مع الصخر الذي يرتفع عليه القصر.

وفي محيط الباحة، توجد عدة مبانٍ خدمية، منها مسجد نُقشت فوق بابه عبارة “بناه لله المتوكل على الله”، ومبنى محكمة القضاء، إضافة إلى ديوان الجلوس وصالة استقبال واسعة. ومن هناك، يصعد الزائر عبر درج حجري إلى ديوان الاستقبال والمجلس الصيفي المطل على الوادي، ومزارعه الخضراء.

وعلى واجهته الأمامية، نقش حجري نادر يخلّد سنة ترميم القصر (1359 هـ / 1940م) بأمر من الإمام. هذه النقوش تُعد وثائق تاريخية هامة، لا تزال بحاجة لجرد علمي وتحليل دقيق، خاصة مع وجود منشآت مغلقة قد تخفي المزيد من الأسرار.

الرحلة إلى قلب القصر

يُتابع الزائر جولته عبر منحنيات درجية خارجية تتجه نحو وسط الواجهة الشمالية، حيث تقع البوابة الرئيسية الخشبية المصنوعة من خشب “الطنب”، بما عليها من مغالق ضخمة تضفي عليها مهابة خاصة. ثم يبدأ الصعود التدريجي داخل القصر، مستكشفا الطوابق الأولى، حيث يلتقي البناء المحفور في الصخر بالبناء التقليدي، بانسجام مذهل قلّ نظيره.


كل واجهة من قصر “دار الحجر” تحكي قصة مختلفة تمنح الزائر تجربة بصرية لا تُنسى، تزاوج بين عبقرية التصميم وبهاء الطبيعة في تناغم إنساني بديع


في الطابق الثاني، يجد الزائر رواقا مكشوفا منحوتا في الصخر، تحيط به نوافذ تطل على الوادي، وتظهر من خلاله غرف من العهد السبئي، بعضها منحوت بالكامل في الجبل، وتضم بئرا صخرية كانت تصل إلى المياه السطحية، إضافة إلى فتحة غامضة تؤدي إلى نفق سري، يُعتقد أنه مخرج طوارئ، لم تُجر عليه بعد دراسات أثرية علمية.

في الطابق الثالث كان الجناح الخاص بوالدة الإمام، يضم غرفا عدة وخزانة محكمة. أما الطابق الرابع، فينقسم إلى جناحين، أحدهما لولي العهد، ويحتوي على غرفة مربعة تحوي خزانة سرية عالية لا تُفتح إلا عبر درج مموه مخفي داخل الجدار.

القسم الآخر من الطابق الرابع، يقع مباشرة على قمة الصخرة، ويضم غرف الخادمات، مطاحن الحبوب، شرفة نشر الغسيل، وصهريج مياه يتغذى من مياه الأمطار عبر شبكة تصريف هندسية ذكية.

ثم يتفرع الدرج إلى مسارين: أحدهما يؤدي إلى جناح نساء الإمام في الطابق الخامس، والآخر يصعد مباشرة إلى جناح الإمام في الطابق السادس، دون المرور بالطابق الخامس.

عند عتبة درج جناح الإمام، توجد فتحة مغطاة بزجاج سميك يعتقد البعض أنها بئر مياه، وهو اعتقاد خاطئ، إذ إنّها في الواقع امتداد معماري يربط جناح الإمام مباشرة بالفتحة المنحوتة في الطابق الثاني، والمُفضية إلى النفق السري.

في الطابق السابع والأخير، توجد صالة استقبال واسعة، يتبعها مطبخ علوي، وشرفة مفتوحة بإطلالة بانورامية شاملة على كامل الوادي، محاطة بنوافذ ومشربيات هندسية تعزز من متعة المشهد.

دار الحجر: تحفة معمارية فوق صخرة يتحدى الزمن
فن العمارة اليمنية بالطوب الأحمر والزخارف البديعة تظهر في ملحق دار الحجر (ريف اليمن/ هديل نبيل)

الحاجة الماسّة لإدارة سياحية محترفة

ورغم عظمة القصر وروعة تفاصيله، إلا أن غياب الإدارة السياحية المؤهلة تفقد الزائرين تجربة أكثر عمقا وثراء؛ فهناك حاجة ماسة إلى جهة سياحية متخصصة، تتولى عمليات الترميم العلمي، وإزالة التشوهات البصرية، كخربشات الزوار وألوانهم العشوائية، وإعادة تشغيل المرافق الخدمية المغلقة باحترافية.

كما يتعيّن إطلاق خطة تسويقية وطنية ودولية، تروّج للمعلومات الصحيحة عن القصر، وتفند الادعاءات المغلوطة التي تقول إن القصر يحتوي على “مقابر صخرية”، وهي معلومة غير دقيقة لا تتماشى مع المعتقدات الجنائزية اليمنية القديمة، والتي كانت تفصل بصرامة بين القصور الملكية والمقابر الملكية، احتراما لقداسة الموت ومكانة الحاكم.

إنّ تسليم إدارة هذا المعلم السياحي الفريد إلى شركة متخصصة، وتوفير خدمات البنية التحتية الأساسية، وعلى رأسها تعبيد الطرق المؤدية إلى وادي ضهر، كفيل بأن يجعل من القصر والوادي معا أعظم متنفس طبيعي وسياحي بالقرب من العاصمة صنعاء، ينعش السياحة الداخلية، ويعود بالنفع على سكان القرى المحيطة به.

The post دار الحجر: تحفة معمارية فوق صخرة يتحدى الزمن first appeared on ريف اليمن.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows