إحياء خط المسند: “القاسمي” يُعلم الأطفال حروف أجدادهم
Reports and Analysis
2 hours ago
share

في منطقة الخيامي، الواقعة بمديرية المعافر جنوب محافظة تعز، يعمل الأربعيني “رياض القاسمي”، على مشروع ثقافي فريد في بيئة يغلب عليها الطابع الزراعي والبساطة، ويقتصر اهتمام سكانها على المطالعة والقراءة فقط؛ حيث قرر أن يخوض مهمة استثنائية تتمثل بإحياء خط المسند اليمني القديم، وتعزيز الوعي بأهميته، باعتباره أحد أعمدة الهوية الحضارية لليمنيين.

ورغم محدودية الإمكانيات، وغياب الدعم المؤسسي، يمضي القاسمي بشغف وثبات، واضعًا نصب عينيه هدفًا كبيرًا، يتمثل بربط الأجيال الجديدة بإرث أجدادهم عبر الحرف والتاريخ، إذ اتخذ على عاتقه مهمة استعادة الموروث الحضاري، فهو لم يكتفِ بالتعلم الشخصي، بل يسعى جاهدًا لتعليم الآخرين من أفراد المجتمع الريفي.

بداية الشغف

منذ بداية نشأته تعلق رياض القاسمي بالهوية والتاريخ اليمني، وهو ما حفزه نحو الالتحاق بالقسم الأدبي في الثانوية العامة، وهو قسم يرى رياض أنه يساعد على التعمق أكثر في دراسة التاريخ والفلسفات القديمة.

لم يكن هناك أي جهة تهتم بتعليم خط المسند، ما دفعه إلى الاعتماد على التعلم الذاتي؛ من خلال قراءة الكتب، ومتابعة الفيديوهات والصفحات المهتمة بالتاريخ اليمني، حتى تعرّف لاحقًا على مجموعة متخصصة بخط المسند في “فيسبوك”، فكانت نقطة التحول.


      مواضيع مقترحة

يقول القاسمي لمنصة ريف اليمن: “ظل اهتمامي بخط المسند اليمني عشقًا مكبوتًا في القلب لم يحرك ساكنًا، حتى ساقني البحث المستمر للتعرف على أشخاص منضمين لمجموعة في موقع فيسبوك يشاركونني نفس الاهتمام. حينها وجدت ضالتي المنشودة”.

القاسمي يكتب اسم منصة ريف اليمن بخط المسند اليمني القديم على سبورة الفصل (ريف اليمن)

من خلال هذه المجموعة، بدأ رياض خطواته الأولى والتحق بعدة دورات متخصصة: تعلم الحروف والأرقام، تفسير النقوش، تفكيك النصوص، وخط الزبور. ثم تحول من متعلم إلى مدرب للمهتمين بالخط في الأوساط الريفية.

وعن سبب تعلمه لخط المسند، أكد رياض: “تعلمي لخط المسند نتج عن شغفي، وحبي، وافتخاري بالهوية اليمنية، وإحساسٍ مني بمواجهة المخاطر التي تمر بها بلادنا من تجريف للمكتسبات التاريخية، ومحاولة إنهاء تاريخ أجدادنا؛ مما جعلني أشعر بالمسؤولية لمحاربة هذه الاتجاهات المسيئة لمجتمعنا اليمني الأصيل”.

نقله للأجيال

لم يكتفِ القاسمي بما تعلمه، بل انطلق لتعليم الآخرين، عبر دورات إلكترونية مجانية على الإنترنت استفاد منها نحو 180 متدربًا، تخرج منهم حتى الآن ثمانية أشخاص مؤهلين لقراءة وكتابة وفهم خط المسند.

يضيف: “على الرغم من المراحل الطوال التي خضتها أثناء التدرّب والتعلم، إلا أنني ما زلت أتعلم وأبحث، وهناك معلومات أجدها جديدة في هذا المجال فأعود للبحث عنها في المراجع والكتب التاريخية؛ حرصًا على تقديم محتوى دقيق وغير مغلوط، خصوصًا وأننا نتعامل مع إرث حضاري حساس”.

كما لم تقتصر جهوده على العالم الرقمي، إذ استغل القاسمي التجمعات الرمضانية في قريته لتعريف السكان بخط المسند، وشرح أدوات الكتابة القديمة، وأشكال الحروف، والفروقات بين الاسم والفعل والجمع والتثنية، وغيرها من قواعد هذا الخط العريق.

من الملفت أن هذا الشغف انتقل من رياض إلى ابنته “شذى”، ذات الأعوام التسعة، التي كانت أصغر متدربة في دورات المسند، وعلى عكس رياض الذي لم يحظَ بالاهتمام الكافي بشغفه بخط المسند منذ الصغر، تشارك شذى والدها ذات الحماس والرغبة في تعلم تاريخ اليمن وتوثيقه.

أثر ملموس

“مشعل المسلمي”، 23 عامًا، من محافظة الضالع، أحد المشاركين في دورات رياض، يقول: “التحقت بالدورة، ولم أكن أعرف شيئًا عن خط المسند، غير أنه خط عظيم كتب به أجدادنا القدماء”.

إحدى الطالبات تكتب إسم المنصة بالخط المسند في المعافر تعز (ريف اليمن)

ويضيف المسلمي لمنصة ريف اليمن: “خلال فترة قصيرة تعلمت الحروف كاملة ودلالاتها، بالإضافة إلى تفكيك النقوش وتفسيرها، وتفكيك النصوص والتعرف على معانيها وشرحها. تعلمت الحروف ودلالاتها وتفسير النقوش”.

أما “حسن القاسمي”، 30 عامًا، من المعافر، فيصف الدورات بأنها أحدثت “نقلة نوعية” في فهمه لخط المسند العربي القديم، معتبرًا أن خط المسند ليس مجرد حروف، بل وثيقة حضارية توثق تاريخ اليمن، وتؤكد أصالته الثقافية.

ويقول: “بالإضافة الى تعلم حروف خط المسند وكيفية كتابتها، تعرفت على تطور هذا الخط عبر العصور، وفهم أنه خط يتجاوز كونه مجرد حروف ليمثل تراثًا حضاريًا يوثق تاريخ اليمن، ويحافظ على الهوية اليمنية والعربية”.

ورغم النتائج الملموسة، يواجه القاسمي تحديات كبيرة، أبرزها ضعف شبكة الإنترنت في الأرياف، بالإضافة إلى قلة الإمكانيات المطلوبة للتدريب؛ كونه لا يتلقى أي دعم أو تمويل من أي جهة، الأمر الذي يشكل عائقا آخر أمامه.

إحياء لروح الحضارة

ويقول رياض إنه يتطلع إلى إدراج خط المسند العربي القديم ضمن المناهج الدراسية الرسمية، لما له من دور محوري في تعزيز الانتماء والهوية وربط الأجيال بتاريخهم الحضاري العريق، لافتا إلى أن هناك قلة وعي لدى المجتمع بأهمية الحفاظ على خط المسند اليمني القديم باعتباره جزءاً من الموروث الثقافي اليمني، حيث يُنظر إليه كهواية أو أمر ثانوي، مما يعرقل عملية نقل المعرفة به، ويدفع البعض للتراجع عن تعلمه.

المدرب رياض القاسمي وهو يشرح لطفلته شذى ذات التسعة أعوام نقوش من خط المسند اليمني القديم (ريف اليمن)

وعن أهمية ما يقوم به رياض من دورات تدريبية وأنشطة لإحياء خط المسند اليمني القديم، تقول “هيام التركي”، مديرة مكتب الثقافة بمديرية الشمايتين إن هذه المبادرات ليست مجرد تعليم حروف من الماضي، وإنما إحياء لروح الحضارة والحفاظ على إرثنا التاريخي والحضاري، وغرس الوعي الثقافي لدى الأجيال للحفاظ عليه وحمايته وتوثيقه.

وتضيف: “نحن كمؤسسة ثقافية نسعى إلى تعزيز الشراكة مع المجتمع المدني والباحثين والأكاديميين لدعم وتشجيع أي جهود تهدف لحماية وتوثيق خط المسند، والعمل على حمايته وتوثيقه”.

والمسند هو خط الممالك اليمنية القديمة من سبأ وحمير وقتبان ومعين وأوسان وحضرموت، ويحوي 29 حرفاً صامتاً، تكتب غالباً من اليمين إلى اليسار، وتفصل مفردات نصوصه عن بعضها بخط عمودي.

وقد سماه اليمنيون قديماً (م س ن د ن) أي (نص مكتوب، لوح عليه نقش)، لإسناد أشكال حروفه إلى بعضها، أو بسبب إسناد نصوصه المكتوبة على ألواح حجرية أو معدنية في المباني والمعابد اليمنية القديمة.

وفي الـ21 من فبراير من كل عام يحتفي اليمنيون بيوم “خط المسند اليمني” باعتباره إرثاً حضارياً يعبر عن روح الهوية اليمنية التاريخية، وجزءاً لا يتجزأ من تراث البلد الثقافي والحضاري.

The post إحياء خط المسند: “القاسمي” يُعلم الأطفال حروف أجدادهم first appeared on ريف اليمن.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows