في الأدبيات السياسية والإدارية، تُعرّف المركزية بأنّها نظام إداري يُركّز السلطة والخدمات في يد العاصمة. ولعلّ هذه الفكرة، حين طُبّقت في سورية، تجاوزت حدود المركزية التقليدية لتتحوّل إلى ما يُطلق عليه اليوم مصطلح "دَمْشقة سورية". هذا المصطلح لا يُشير فقط إلى هيمنة دمشق على القرارين السياسي والإداري، بل يعكس إعادة تشكيل البلاد بالكامل بحيث تصبح المدن والمناطق الأخرى مجرّد هوامش تدور في فلك العاصمة. وقد كرّس حزب البعث، بسياساته الداخلية التي قامت على التهميش وزعزعة بنية المدن والمجتمعات السورية، هذا الواقع، الذي تظهر نتائجه بوضوح حتى اليوم.
يبدو للوهلة الأولى أنّ دمشق استفادت من هذه الهيمنة. فهي موطن الوزارات، مركز الإعلام، والعنوان الأوّل لأيّ شاغر وظيفي أو استثمار خارجي أو مشروع وطني. لكن الحقيقة التي بدأت تتضح، خاصة في العقدين الأخيرين، أن هذه السيطرة لم تكن نعمة صافية، بل تحوّلت تدريجيًا إلى عبء خفي يقوّض العاصمة من الداخل، ويحوّلها إلى مدينة تختنق بثقل ما راكمته من امتيازاتٍ مُفرطة.
تضخّم عمراني خارج السيطرة
حين تتحوّل مدينة إلى نقطة الجذب الوحيدة في البلاد، فإنها بالضرورة ستواجه طوفانًا سُكانيًا لا يتوقّف. هذا ما حدث لدمشق، التي تضاعف عدد سكانها بشكل هائل منذ سبعينيات القرن الماضي، ليس بفعل النمو الطبيعي فحسب، بل بسبب نزوح قسري وطوعي من مدن وبلدات تهمّشت أو دُمّرت.
الازدحام في شوارع دمشق لم يعد مجرّد مشهد مروري يومي، بل أضحى تجسيداً حياً لفكرة المركزية المُنهكة
شهدت العاصمة تمدّدًا عمرانيًا عشوائيًا، حيث تمّ الاستيلاء على مساحات واسعة من الغوطة وغيرها من الأراضي الزراعية المُحيطة بها، بالتوازي مع تدمير مُمنهج للغطاء الأخضر حول المدينة لصالح مصالح شبكات الفساد. ونتيجة لذلك، نشأت أحياء مكتظة بالسكان تفتقر إلى أبسط مقوّمات التنظيم الحضري، مثل شبكات الصرف الصحي، وخدمات المياه والكهرباء المُنتظمة، والمرافق العامة الملائمة.
ضغط خدمي لا تحتمله أي مدينة
الازدحام في شوارع دمشق لم يعد مجرّد مشهد مروري يومي، بل أضحى تجسيداً حياً لفكرة المركزية المُنهكة. شبكات الكهرباء غير قادرة على تلبية الطلب المتزايد، والانقطاعات باتت جزءًا من الروتين. مياه الشرب تأتي بالتقنين، ويعتمد كثير من السكان على صهاريج مكلفة، أو آبار غير مُراقبة صحيًا.
دمشق ليست مدينة صناعية كحلب، ولا زراعية كحمص أو الحسكة، ولا نفطية كمدن الجزيرة
هذا الضغط الخدمي لم يكن ليحدث بهذا الشكل، لو كان هناك توزيع عادل للسكان والخدمات بين المدن السورية. لكن حين تُجبر محافظة كالرقة أو دير الزور أو حتى حلب على تصدير كوادرها وطلابها وخدماتها نحو دمشق، فإن النتيجة الطبيعية هي مدينة مُشبعة فوق قدرتها، تنهار بنيتها التحتية تدريجيًا.
اقتصاد العاصمة... هشٌّ ومُصطنع
ورغم المظاهر البراقة، فإنّ الاقتصاد الدمشقي لا يقف على قاعدة إنتاج حقيقية. فدمشق ليست مدينة صناعية كحلب، ولا زراعية كحمص أو الحسكة، ولا نفطية كمدن الجزيرة، بل تعتمد أساسًا على تحويل الموارد: أموال تأتي من الخارج، أو من مراكز اقتصادية أخرى داخل البلاد، أو عبر شبكات الولاء والفساد، حيث إنّ شهرة مجتمعاتها التجارية تاريخياً غير كافية لسدّ حاجة المدينة مع هذا التضخّم الهائل.
هذه البنية الهشّة ظهرت جليةً مع العقوبات وانهيار الاقتصاد السوري بعد 2011، حيث تراجعت القوّة الشرائية في دمشق، وأغلقت آلاف المحال أبوابها، وانتشرت البطالة حتى في قلب العاصمة.
العاصمة في مرمى الغضب
حين تكون العاصمة هي الوجه السياسي والإداري الوحيد للبلاد، فإنها تتحمّل أيضاً تبعات أيّ قرار ظالم أو أزمة وطنية. ولهذا لم تكن مصادفة أن تقع أحياء مثل جوبر والقابون وبرزة تحت نيران الحرب مباشرة، وأن تشهد الضواحي الشرقية مواجهات دامية، ليس فقط لأنها الأقرب إلى خطوط التماس، بل لأنها كانت أيضًا الأكثر تهميشًا وازدحامًا، والأقل استثمارًا واهتمامًا لعقود. هذا جعل من دمشق مدينة هشّة وغير متماسكة، رغم كونها رمزًا للدولة.
تحوّلت دمشق، بغير إرادتها، إلى صورة رمزية للدولة المُهيمنة، وصار يُنظر إليها على أنها المدينة التي تعيش على حساب باقي البلاد
التوتّر الاجتماعي وفقدان الهُويّة
مع تكدّس الوافدين من كلّ المحافظات، ونمو خطاب إعلامي يرسّخ لهجة العاصمة وصورتها كمركز "راقٍ"، تولّد شرخ اجتماعي بين "أبناء دمشق الأصليين" و"الوافدين" إلى جانب نظرة المدن الأخرى إليها. هذا الاحتكاك ظهر في الخطاب الشعبي، والتوظيف، والتعليم، وحتى في النكات. لقد تحوّلت دمشق، بغير إرادتها، إلى صورة رمزية للدولة المُهيمنة، وصار يُنظر إليها على أنها المدينة التي تعيش على حساب باقي البلاد، بينما هي في الواقع تدفع ثمن اختلال التوازن الوطني.
لا مركز بلا أطراف
المدن لا تنهض وحدها. فالعاصمة، مهما بلغ شأنها، لا يمكن أن تبقى على قيد الحياة إن لم تكن مُحاطة بشبكة من المدن المزدهرة والمترابطة. ودمشق، التي التهمت نصف سورية باسم الهيمنة، باتت اليوم مدينة تعاني من التخمة، والشلل، وفقدان الهوية، والضغوط التي لا يمكن لعاصمة وحدها أن تتحمّلها.
ربما آن الأوان أن يُعاد التفكير في البنية الإدارية لسورية ما بعد الثورة. لا من أجل إنصاف المدن التي همّشتها دمشق، بل لإنقاذ دمشق ذاتها من المصير الذي صنعه نظام أراد أن يبني دولة داخل مدينة على حساب مكانة وإمكانية شقيقاتها، فانتهى به الأمر بأن أنهك المدينة، وضرب الدولة في جذورها.
في النهاية، يتضح أن ظاهرة "دمشقة سورية" ليست مجرّد تهميش للمحافظات والمدن الأخرى، بل تحوّلت إلى عبء ثقيل وقع على عاتق دمشق نفسها. فالعاصمة التي سعت لاحتكار السلطة والموارد من دون خطط تنموية مدروسة ومُنصفة، لم تستطع تحمّل ثقل هذا التمركز المُفرط، فانهارت بنيتها التحتية، وضاقت بها السبل، وتعاظمت الانقسامات الاجتماعية، وتراجع اقتصادها، رغم الامتيازات التي لم تفد جميع شرائح مجتمعها.
إذا كانت هذه النتائج المؤلمة قد أصابت دمشق، التي تحتضن مركز القرار والموارد، فكيف سيكون حال بقية المدن السورية التي طاولها الإهمال والتهميش لعقود ولا تزال تعاني من استمرارية هذه السياسة؟ هل ثمّة أمل في إصلاح هذا النظام المركزي الذي يرهق العاصمة ويُضعف بقية المدن، أم أننا سنبقى على هذا المسار الذي يقضي على فرص التنمية والتقدّم في سورية بأسرها؟
Related News


