
أصدرت السلطات الفرنسية، صباح اليوم الثلاثاء، طلباً إلى المواطنين بأن يتوقفوا عن العمل عند الساعة الثانية عشرة ظهراً، ويأتي ذلك في أعقاب التحذير من أن درجات الحرارة يمكن أن تتجاوز 39 درجة مئوية. وحض التلفزيون الفرنسي كبار السن على أخذ الاحتياطات اللازمة، وخصوصاً أولئك الذين يعيشون في شقق بدون مكيفات هواء، كما قرّرت السلطات إغلاق نحو 1300 مدرسة، اليوم الثلاثاء، لحماية الصغار من تطرف مناخي جعل درجات الحرارة تحوم عند الأربعين درجة مئوية، كما أُغلق برج إيفل أمام مرتاديه.
وفي إسبانيا، التي يرتادها السائحون الأوروبيون بحثاً عن شمس البحر الأبيض المتوسط لم يعد لموجة الحر الشديد، وسط جفاف قاتل، سوى تأثير سلبي، وسط تحذيرات امتدت في إسكندنافيا لكي يبقى مواطنوها بعيدين عن سواحل إسبانيا والبرتغال. مع ذلك، اشتعلت فجأة منذ أمس الاثنين في الدول الإسكندنافية مصابيح حمراء تحذر من درجات الحرارة قد تتجاوز الـ34 درجة مئوية، وفي الدنمارك التي ودعت شهر يونيو/حزيران الماضي بأمطار ورياح ودرجات حرارة عند الـ19 درجة، يبدو أن شهر الصيف، يوليو/تموز افتتح بدرجات حرارة صادمة اليوم وغداً. فالأربعاء يحمل معه تحذيراً بارتفاع يصل إلى 35 درجة مئوية وربما أكثر في بعض المناطق، كما حذرت الأرصاد الجوية في كوبنهاغن. تنقسم خريطة البلد الصغير إلى جزء شرقي مشتعل بالأحمر، يتصبّب فيه الناس عرقاً، اليوم الثلاثاء، بينما الجزء الغربي يكتسي الأصفر بدرجات حرارة عند 19 درجة مئوية، أمر يعتبره خبراء المناخ "خارج المألوف"، في أن يكون الفارق بمسافة 300 كيلومتر نحو 15 درجة مئوية.
البلد الإسكندنافي الجار والثلجي السويد يعيش هذه الساعات وضعاً غير مسبوق. خريطة حمراء من شماله إلى جنوبه الغربي، والأرقام الموزعة لا تقل عن 34 درجة مئوية. وإلى الجنوب قليلاً تبدو ألمانيا تحت وطأة موجة حر شديد لوّنتها بأحمر داكن، وفي منتصفها ليس أقل من أربعين درجة مئوية، وشرقاً وغرباً ليس أقل من 33 إلى 38 درجة مئوية. وحذرت سلطات ألمانيا مواطنيها من الانتباه إلى ارتفاع شديد في درجات الحرارة، ويشمل ذلك غرب البلاد وعلى مقربة من بلجيكا وجنوباً على حدود الألزاس مع فرنسا، وأكدت الأرصاد الألمانية أن الحرارة ستشهد ارتفاعات إضافية وستبقى مرتفعة طوال الليل.
درجات الحرارة تتصاعد في أوروبا
ويشير خبراء التغيّرات المناخية في تصريحات مرافقة لهذه التطوّرات إلى أن ما يجري من تغير متطرّف مؤشر على عدم أخذ الدول بصورة جدية المساهمة في لجم الانبعاثات الغازية الضارة، وبالتالي ارتفاع درجات حرارة الأرض، برغم كل الوعود، منذ اتفاقية باريس المناخية (كوب 21) في 2015، وما تبعها من مؤتمرات مناخية.
التفسير المباشر لظاهرة اليوم أن موجة حر شديدة ضربت القارة آتية من غرب أفريقيا، وبما يؤثر على وسط وغرب القارة، بل ووصلت إلى شمالها بصورة غير مسبوقة من ناحية الحرارة والجفاف والرطوبة المرافقة. وتعتبر لجنة الأمم المتحدة للمناخ أن "تأثير الجزيرة الحرارية"، حيث لا تتمتع الرياح بفرصة تهوية جيدة، تولدها أنشطة البشر، وخصوصاً في المدن ذات المباني الشاهقة، إذ يعتبر الإسفلت وأسطح العمارات ممتصة للحرارة.
تحذيرات من أن تشهد القارة الأوروبية في وقت لاحق من العام الحالي هطول أمطار غزيرة ونشوء فيضانات كارثية
وإذا كان البعض يعتقد أن حرارة بعض الدول العربية عند نحو 40 درجة مئوية أمر لا يُطاق فله أن يتصوّر حال الإسبان والبرتغاليين الذين وصلت درجات الحرارة عندهم في الظل إلى 45 و46 درجة مئوية. ويمكن تصوّر تأثير موجة الحر على باريس المكتظة بالسكان، وقليلة التشجير والغابات، حين تتجاوز درجات حرارتها أربعين درجة. بل حتى بريطانيا تجد نفسها في وضع شبيه بأوضاع غرب ووسط القارة الأوروبية، بتمدد موجة الحر نحوها. ولندن التي تحتضن بطولة ويمبلدون منذ أمس الاثنين يُتوقع لها 35 درجة مئوية.
الأخبار السيئة للأوروبيين لم تنته بعد؛ إذ إلى جانب الخشية، كما كل مرة ضربت موجات الحر دولهم، من فقدان كبار السن وغيرهم لأرواحهم ممن لم يحتملوا هذه الزيادات الرهيبة في درجات الحرارة والشمس الحارقة، فإن التحذيرات من أن تشهد القارة في وقت لاحق من العام الحالي هطول أمطار غزيرة ونشوء فيضانات كارثية، كالتي شهدتها فالنسيا الإسبانية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. أضف إلى ذلك فإن جيوب المستهلكين الأوروبيين هي الأخرى ستدفع ضريبة هذه الارتفاعات الجنونية بدرجات الحرارة، إذ ترتفع أسعار واستهلاك الكهرباء لأغراض التكييف، وخصوصاً مع استمرار ارتفاع الحرارة ليلاً في بعض دولها، مثل السويد والدنمارك وألمانيا.
وكما كل مرة يفرض تطرف المناخ نفسه على البشر يعود الجدل حول مسؤولية الإنسان والدول عن صحة الأرض؛ فرغم الاتفاقيات التي قرّرت على مدار سنوات بشأن تضافر الجهود من أجل تخفيف تأثيرات انبعاثات الغازات المشكلة لظاهرة الدفيئة المدمرة للمناخ والبيئة عموماً، وخصوصاً منع ارتفاع درجة حرارة الأرض بأكثر من 1.5 درجة مئوية، فإنه في المقابل هناك دول وساسة لا يأخذون الأمر على محمل الجد، ومن بينهم الطرف الأميركي في عهد ترامب، الذي انسحب من "باريس المناخية"، ويعتبر تياره أن قصة التغيرات المناخية "أخبار زائفة".
ويمتد التفكير المستهتر بمناخ الأرض إلى مجمّعات صناعية ضخمة، وبينها عابرة للجنسيات، إذ يُتّهمون بمسؤوليتهم عن تلويث الغلاف الجوي. ووسط تنافس كبير بين الصين، المتهمة أيضاً بمسؤولية كبيرة عن الغازات الضارة، وأميركا، وبحث أوروبا عن إعادة تسلّحها من خلال مصانع ضخمة، وتخصيص الأموال الهائلة لأجل ذلك، بدل تخصيصها لمكافحة تدمير صحة الأرض، جعلت أخيراً النقاشات الدولية، ومنها تلك التي عقدت في ألمانيا بشأن التحضير لقمة مناخية في البرازيل، "كوب30"، غير متحمّسة للقضايا المناخية مثلما كانت عليه في قمة باريس المناخية. بل يتهرب الأثرياء من مستحقات مساعدة الدول الفقيرة في الجنوب لمواجهة آثار التغيرات المناخية، وكأن القصة لم تعد تعنيهم، رغم انتقادات الأمم المتحدة.
وبين تصارع الراويتَين تبقى حقيقة ماثلة أمام دول الشمال الثرية، إذ لم يعد النظر إلى الارتفاعات الجنونية لدرجات الحرارة، بكل ما تؤثره عملياً على الإنسان، من الزراعة إلى الصحة، في أن التغير المناخي بات يضرب وبقوة في مجتمعاتهم، وربما اشتعال الخرائط باللون الأحمر يشعل لديهم المصابيح الحمراء لأخذ الأمور المناخية بجدية أكثر.

Related News

