
تتزايد التقارير والتسريبات الإعلامية عن مفاوضات سريّة جارية بين الإدارة السورية الجديدة وإسرائيل، سواء ما عُرف بغرفة أذربيجان أو الإمارات، أو حتى قنوات خلفية أخرى تهدف مباشرة إلى بناء أطر من التفاهمات الأمنية والعسكرية السورية الإسرائيلية، بخاصّة بعد التوغّلات العسكرية الإسرائيلية، والضربات المتتالية التي تنتهك السيادة السورية، منذ سقوط نظام بشّار الأسد. وبالرغم من أنّ التصريحات العلنية الإسرائيلية معادية لإدارة الرئيس أحمد الشرع، ومشكّكة بصورة كاملة بالنظام الجديد، ولا يتردّد نتنياهو ولا وزراؤه (بخاصّة وزيرَي الخارجية والدفاع) في إطلاق التهديدات والوعيد ضدّ النظام السوري الجديد، فإن هنالك شيئاً ما أميركياً يُطبخ في الأثناء، يتعلّق (على الأغلب) بترتيب اتفاق سلام سوري إسرائيلي، ومن ثمّ دخول سورية في نطاق الاتفاقات الإبراهيمية للتطبيع.
يرى الإسرائيليون في هذا فرصة مهمّة وتاريخية، بخاصّة في ظلّ حالة الضعف الشديد التي تمرّ بها سورية اليوم.
تشير تقارير إلى أن الصفقة المطروحة على إسرائيل تتمثّل بتطبيع واسع النطاق، مع رغبة أميركية بأن تكون دمشق مع الرياض ضمن صفقة التطبيع المقبلة
وفي المقابل، لا يُتوقَّع أن تتنازل إسرائيل عن مرتفعات الجولان من أجل السلام مع سورية، ووفقاً لتقرير "العربي الجديد" ("صمت رسمي سوري وتسريبات إسرائيلية بشأن اتفاقية سلام محتملة"، 29/6/2025)، فإن أحد المقترحات يتمثّل في تحويل الجولان "حديقة سلام"، فيما يرى الباحث السوري، رضوان زيادة، هذا المقترح قديماً، ويشاركه باحثون سوريون (في التقرير نفسه) في أنّ الإدارة الجديدة لا تمتلك الشرعية ولا الصلاحيات الكافية لسيناريو كهذا، فضلاً عن أن المزاج الشعبي السوري لا يرحّب بمثل هذه الخيارات، بخاصّة في حال لم تتمكن سورية من استعادة أراضيها كاملة التي احتُلَّت في 1967. كيف يمكن أن نقرأ هذه التسريبات، وإلى أي مدى تعكس فعلاً ما يدور في القنوات الخلفية الخفية من مفاوضات وصفقات ومساومات؟
ما هو منطقي في موقف الإدارة السورية أنّها تسعى إلى تجنّب الصدام المسلّح مع إسرائيل، وتبعث رسائل عديدة، سواء عبر القنوات غير المباشرة أو المباشرة (كما تؤكّد مصادر)، إذ اتضح أنّ هنالك أجندة إسرائيلية خطيرة تسعى إلى تقسيم سورية، وإثارة الفوضى، وضمانة عدم تمكن الدولة الجديدة من بناء مصادر القوة في المرحلة المقبلة، فيما يحاول القادة السوريون الجدد تأكيد أنهم قطعوا الصلة بأيديولوجيا الحركة الجهادية من ناحية، وأن أولويتهم الرئيسة تتمثّل في بناء سورية، وتوحيدها، ورفع العقوبات الاقتصادية، وهي عملية تتطلّب أعواماً طويلة من التركيز في الداخل، وفي الجهود الخاصة بالبنية التحتية والاقتصاد، وليسوا في مرحلة (ولا نيّة لهم في) الدخول في مواجهة مسلّحة مع إسرائيل.
عملياً، لا تملك سورية اليوم جيشاً، وقد أجهزت إسرائيل على ما تبقّى من أسلحة النظام السابق ومستودعاته، ولم تُبقِ ولم تذر مجالاً على المدى القريب لبناء أيّ قوة عسكرية، وهو أمر يدركه القادة الجدد. لذلك، كلّ ما يطمعون فيه شراء الوقت، وتحييد العامل الإسرائيلي، ليتمكّنوا من ترتيب البيت الداخلي، ومواجهة تحدّيات عديدة، كبيرة وخطيرة.
ذلك كلّه مفهوم وواقعي، لكن ما تفيد به التقارير والتسريبات بأن الصفقة المطروحة على إسرائيل تتمثّل بتطبيع واسع النطاق، مع وجود رغبة أميركية شديدة بأن تكون دمشق مع الرياض ضمن صفقة التطبيع المقبلة، وهو فيما يبدو جزءاً من الثمن المطلوب سورياً لرفع العقوبات، وبدء مشروعات إعادة الإعمار. وبالطبع، مثل هذا السيناريو مرتبط بدرجة رئيسة باستئناف مسيرة التسوية السلمية بين إسرائيل والفلسطينيين، وحلّ العقد الكبيرة والمستعصية، مثل موضوع القدس والسيادة والأراضي والمستوطنات، والأهم مدى استعداد نتنياهو، أو أيّ حكومة إسرائيلية، للتراجع عن قرارات رئيسة اتُّخذت في الكنسيت، ترفض إقامة دولة فلسطينية والاعتراف بها. وفي الطرف المقابل، يرتبط هذا السيناريو بمدى استعداد أيّ فلسطيني للتوقيع على اتفاقية تتضمّن أن القدس الشرقية ليست عاصمة دولة فلسطين، أو القبول بضمّ أجزاء كبيرة من الضفة الغربية. إذاً لا تزال مسألة السلام السوري الإسرائيلي معلّقة بصورة أساسية على متغيّرات وتطوّرات أخرى عديدة، بخاصّة ما يتعلّق بالموقف السعودي، وما يوصف بأنّه "الجائزة الكبرى" لإسرائيل. ومن زاوية أخرى، هنالك عائقٌ كبيرٌ يتمثّل بمصير الجولان، ومدى استعداد إسرائيل لإعادته إلى سورية. ويبدو اليوم مثل هذا السيناريو أيضاً، ضمن الحالة الإسرائيلية، مستبعداً، حتى مع وجود الضغوط الأميركية، وبالرغم من تلميحات المبعوث الأميركي للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، بأنّ هنالك فرصة كبيرة لانضمام سورية ولبنان إلى الاتفاقات الإبراهيمية.
لا تملك سورية اليوم جيشاً، فيحاول قادتها الجدد شراء الوقت، وتحييد إسرائيل ليتمكّنوا من ترتيب البيت الداخلي
لو تجاوزنا هذه المحدّدات، وتخيلنا أنّ هذا السيناريو؛ التطبيع الإقليمي السعودي الإسرائيلي، وصفقة الجولان قد أنجزت، وقفزنا إلى سؤال افتراضي (مع تأكيد على كلمة افتراضي) آخر: هل يمكن لأحمد الشرع، وهو من خلفية سلفية جهادية، أن يعقد سلاماً مع إسرائيل؟ الجواب (على الأغلب) نعم، من الممكن. يعزّز هذا ما تزعمه مصادر دبلوماسية عربية عن مسؤول سياسي عربي رفيع زار الشرع سابقاً، وقد سأله الأخير عن رأيه بالرئيس المصري الراحل أنور السادات، وكان سؤالاً مفاجئاً لذلك السياسي، لكن رأي الشرع أنّ ما قام به السادات، توقيعه معاهدة سلام مع إسرائيل في 1979، كان شجاعاً. وبالرغم من أنّ هذه الفكرة قد تكون صادمة لكثير من القرّاء، فإنّ هنالك أمرَين رئيسَين، من الضروري أخذهما بالاعتبار: الأول أنّ أحمد الشرع أظهر براغماتية وواقعية سياسية عالية تجاوزت سياسيين عرباً كثيرين، واتخذ خطواتٍ غير متوقّعة ولا محسوبة، وتجاوز عقباتٍ وحدوداً أيديولوجية وسياسية لا تقل عن مسألة الصلح أو السلام مع إسرائيل، وبالتالي ليس مستغرباً (في ظروف معيّنة) أن يقبل بالسلام مع إسرائيل، إذا وجد صيغة مناسبة للجولان، وتطبيعاً إقليمياً، ومصلحة استراتيجية لسورية. الثاني أنّ الفقه السياسي السلفي، بخلاف الفقه السياسي للإخوان المسلمين (وهنا المفارقة)، أكثر براغماتية وواقعية، ومرتبط بدرجة أكبر بالمصالح والمفاسد، ومتحلّلٌ من الحمولات السياسية والفكرية التي ارتبطت بتاريخ "الإخوان"، وهذا موضوع يحتاج مناسبة أخرى.

Related News

