
تتسع رقعة المأساة في قطاع غزة وسط الحصار المستمر والحرب المتواصلة، لتشمل الأطفال، الذين باتوا من أكثر فئات المجتمع هشاشة وعرضة للأمراض والمخاطر الصحية، بسبب سوء التغذية المتفاقم الناتج عن انعدام الأمن الغذائي وفقدان الرعاية الصحية الأساسية. وبفعل الحصار الطويل وتدمير سلاسل الإمداد الغذائية، يعاني عشرات الآلاف من أطفال غزة من نقص حاد في العناصر الغذائية الأساسية مثل البروتينات، الحديد، الكالسيوم، الزنك، وفيتامين A وD، وهي عناصر ضرورية لنمو الأطفال الجسدي والعقلي، بينما تعتمد عائلات على وجبة بسيطة أو وجبتين يوميا، تفتقر في الغالب إلى التنوع أو الكمية الكافية.
ويشير العديد من التقارير الطبية الصادرة عن الجهات المحلية المختصة والمؤسسات الدولية المعنية بالطفل إلى انتشار كبير لحالات سوء التغذية وما يرافقها من هزال نتيجة انخفاض الوزن مقارنة بالطول، وفقر الدم بسبب نقص الحديد، وضعف المناعة، ما يجعل الأطفال عرضة للأمراض الفيروسية والبكتيرية. ورُصدت حالات لأطفال لا تتجاوز أعمارهم السنة الواحدة، يعانون من انخفاض حاد في الوزن، مع جفاف الجلد وتساقط الشعر، وهي علامات واضحة على نقص البروتين والطاقة، في الوقت الذي تسببت ظاهرة سوء التغذية بوفاة أطفال لم يحتملوا الآثار الجانبية القاسية. ولا يؤثر سوء التغذية على المظهر الخارجي أو النمو البدني فقط، بل يؤدي إلى تأخر في النمو العقلي والمعرفي، ما يضعف القدرة على التعلم في المستقبل، ومشكلات سلوكية ونفسية، نتيجة الشعور المستمر بالجوع وسوء الحالة الصحية، كذلك زيادة احتمالية الإصابة بأمراض مزمنة مثل السكري وأمراض القلب في مراحل لاحقة من الحياة.
سوء التغذية ينذر بكارثة صحية في غزة
وفي ظل تدمير البنية التحتية للمستشفيات ونقص الأدوية والمكملات الغذائية، يجد القطاع الصحي نفسه غير قادر على مواجهة هذا التدهور الصحي، ولا يملك أدوات التدخل المبكر للكشف عن سوء التغذية أو التعامل مع نتائجه. وفي الوقت ذاته، حذر العديد من المنظمات الدولية مرارا من كارثة صحية في غزة، مشيرة إلى أن واحدا من كل ثلاثة أطفال دون سن الخامسة يعاني من شكل من أشكال سوء التغذية، فيما يواجه بعضهم خطر الموت إن لم يتم توفير الغذاء العلاجي العاجل.
وتعاني الفلسطينية سمية عبد ربه من تدهور الحالة الصحية لطفلها يزن (6 سنوات) من جراء تعرضه لسوء التغذية ونقصان وزنه بشكل تدريجي، الأمر الذي بات يؤثر بشكل واضح على وزنه وشكل جسمي الخارجي، إلى جانب الهزال والدوار المتواصل الذي يشعر به. وتلفت عبد ربه وتعيش داخل خيمة نزوح وسط مدينة غزة لـ "العربي الجديد" إلى أنها عرضت طفلها على الأطباء وأجرت الفحوصات اللازمة، وقد أفادها الأطباء بضرورة متابعة حالته وتوفير الأغذية الصحية والفيتامينات التي يحتاجها جسد طفلها الهزيل. وتبين عبد ربه مدى صعوبة توفير المتطلبات الخاصة بأسرتها بشكل عام، وطفلها يزن بشكل خاص، في ظل النقص الشديد في مختلف المواد الغذائية من جراء إغلاق المعابر، ومنع دخول المواد الغذائية والإمدادات الأساسية اللازمة.
سوء التغذية يشكل خطرا جسيما على حياة الأطفال وصحتهم العامة، حيث يزيد من معدلات الإصابة بالأمراض الأخرى
ويتشابه واقع الطفل يزن مع الآلاف من أقرانه، وتقول الفلسطينية سارة الخالدي النازحة من حي الزيتون إلى خيمة في شارع الجلاء وسط مدينة غزة إنها لاحظت تغيرات على ملامح طفلتها سجى (4 أعوام) فعرضتها على الأطباء وأجرت فحص الدم لتتبين إصابتها بفقر الدم نتيجة سوء التغذية الحاد. وتبين الخالدي لـ "العربي الجديد" أنها تحاول طوال الوقت برفقة زوجها توفير الطعام الصحي لطفلتهما وأسرتهما، إلا أنهما يصطدمان بالنقص الشديد في الأسواق، والأسعار الخيالية للكميات الشحيحة المتوفرة، والتي لم يعد بمقدور الأسرة توفيرها من جراء فقدانها مصدر دخلها الوحيد.
وتلفت الخالدي إلى تزامن ذلك النقص، والعجز عن توفير متطلبات الأسرة وفي مقدمتها الطعام، مع توقف المساعدات الإنسانية نتيجة إغلاق المعابر والشلل التام في المنظومة الإغاثية من جراء التوقف عن توزيع المساعدات وفق الآلية القديمة، واستبدالها بآلية مريبة لا تمكن الفلسطينيين من الوصول إلى أبسط مقومات الحياة الأساسية. وتشير إلى أن ذلك الواقع الصعب والقاسي يترافق كذلك مع شلل تام في المنظومة الصحية من جراء استهداف المستشفيات ومنع دخول الأدوية والفيتامينات والمكملات الغذائية الخاصة بحالة طفلتها والآلاف من الأطفال، وتقول: "أشعر برعب حقيقي ومتزايد على طفلتي يوما بعد الآخر".
في الإطار ذاته، تقول مسؤولة مكتب الإعلام والتواصل في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا" في غزة إيناس حمدان، إن قطاع غزة يشهد ارتفاعا ملحوظا في معدلات سوء التغذية بين الأطفال، خاصة الفئة العمرية من 6 إلى 59 شهرًا. وتبين حمدان لـ "العربي الجديد" أن تزايد معدلات سوء التغذية يعود إلى عدة أسباب، أبرزها استمرار الحرب والحصار وإغلاق المعابر والوضع الاقتصادي المتدهور، بالإضافة إلى ضعف الوصول إلى الغذاء الصحي والخدمات الصحية الأساسية، الأمر الذي يؤدي إلى تزايد أعداد الأطفال المعرضين لخطر سوء التغذية، مشددة على أنه نتيجة لاستمرار الوضع الحالي دون حلول فعالة، فإن خطر المجاعة يلوح في الأفق وقد يصبح على الهاوية.
وبخصوص أعداد الأطفال المصابين بسوء التغذية بشكل عام، وكذلك أعداد الأطفال المصابين بسوء التغذية الحادة تلفت حمدان إلى أنه ومنذ يناير/ كانون الثاني 2024 وحتى منتصف يونيو/ تموز 2025، نظم الفريق الصحي الخاص بالتغذية فحصا مسحيا لـ 222.022 طفلاً باستخدام محيط منتصف الذراع (MUAC) للأطفال من عمر 6 إلى 59 شهرا في المراكز الصحية بالإضافة إلى النقاط الطبية التابعة لأونروا. وقد تم تسجيل 14.172 حالة إصابة بسوء التغذية. ومن بين الحالات التي تم فحصها، تشير حمدان إلى أن من بينها 12245 طفلا تم تسجيلهم في برامج العلاج الخارجي لسوء التغذية المتوسط (MAM)، و1.927 طفلا تم تسجيلهم للعلاج الخارجي من سوء التغذية الحاد الوخيم (SAM).
وفي ما يتعلق بمخاطر سوء التغذية على حياة الأطفال ومستقبلهم، تبين حمدان أن سوء التغذية يشكل خطرا جسيما على حياة الأطفال وصحتهم العامة، حيث يزيد من معدلات الإصابة بالأمراض الأخرى، ويضعف مناعة الجسم، ويعرضهم لمضاعفات قد تؤدي إلى الوفاة في حال غياب التدخل العلاجي المناسب. كما يؤثر سوء التغذية وفقا لحمدان على نمو الطفل البدني والعقلي، ويحد من قدراته التعليمية والإنتاجية في المستقبل مما يهدد بفقدان جيل كامل إذا استمر الوضع دون تدخل فعال.
وتشدد حمدان على ضرورة ضمان وصول الغذاء الصحي والمتوازن لجميع الأسر، خاصة الفئات الأكثر هشاشة، ودعم البرامج الصحية والتغذوية التي تقدم الرعاية للأطفال المصابين بسوء التغذية ومتابعتهم بشكل منتظم، إلى جانب تعزيز التوعية المجتمعية حول أساليب التغذية السليمة وطرق الوقاية من سوء التغذية. وتشير إلى ضرورة توفير الدعم الإنساني المستدام لتحسين الوضع الاقتصادي للأسر، بما يقلل من معدلات الفقر ويعزز الأمن الغذائي، والعمل على فتح المعابر وضمان تدفق الغذاء والمساعدات الإنسانية بشكل آمن ودون عوائق، كذلك السماح للأونروا وجميع الجهات الإنسانية بأداء عملها وتقديم خدماتها دون قيود لضمان استمرارية الرعاية الصحية والغذائية للأطفال.

Related News

