
تستقر جزيرة سقطرى اليمنية في قلب المحيط الهندي كجوهرة بيئية نادرة، تحتضن تنوعًا بيولوجيًا مذهلًا لا مثيل له على وجه الأرض، لكن هذه الجزيرة المعزولة، التي ظلّت لقرون بعيدة عن الأنظار، تواجه اليوم أخطر التحديات البيئية في تاريخها، بسبب التغير المناخي، والرعي الجائر، والسياحة غير المنظّمة.
تُقارب مساحة سقطرى مساحة جزيرة "لونغ آيلاند" في نيويورك، وتمتاز بنظام بيئي فريد تطوّر عبر ملايين السنين من العزلة الجغرافية، وتُشير منظمة اليونسكو إلى أن ثلث النباتات البالغ عددها نحو 825 نوعًا في الجزيرة لا توجد في أي مكان آخر في العالم، من أبرزها: شجرة دم الأخوين، وأشجار اللبان النادرة، والصبّار العلاجي، والشعاب المرجانية الزاخرة بالحياة البحرية.
ويصف عالم البيئة الهولندي كاي فان دامه، الذي عمل في الجزيرة لأكثر من 20 عامًا، سقطرى بأنها "غالاباغوس المحيط الهندي"، لكنه يحذّر من أن هذا التنوع بات مهددًا بشكل خطير.
وقال فان دامه في تصريح لشبكة NBC:"التغيّر المناخي هو بلا شك التهديد الأكبر لتنوّع سقطرى البيولوجي، إنها جزيرة صغيرة ذات مناخ جاف، وأي تأثير بسيط قد يُحدث ضررًا هائلًا على أنظمتها البيئية الهشّة".
وقد تضررت سقطرى بشدة من الأعاصير المدمّرة التي ضربتها في عامي 2015 و2018، والتي خلّفت دمارًا واسعًا شمل تآكل التربة، وتدمير الشعاب المرجانية، واقتلاع النباتات النادرة، وسط موجات جفاف متكررة.
تشير تقارير "الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة" إلى أن أربعًا من أصل 11 نوعًا من أشجار اللبان في سقطرى صُنّفت على أنها "مهددة بالانقراض بدرجة حرجة"، فيما صُنّفت خمسة أنواع أخرى بأنها "مهددة بالانقراض"، مما يعكس حجم التدهور البيئي المتسارع.
ويؤكد عالم البيئة الهولندي فان دامه أن الرعي الجائر، خصوصًا من قبل الماعز، يفاقم الأزمة، مؤكدًا:"الرعي يؤدي إلى تدمير المواطن الطبيعية، ويمنع نمو الأشجار الجديدة، ما يهدد استمرار الأنواع المعمّرة".
ورغم إدراج الجزيرة ضمن قائمة التراث العالمي، فإن نمو النشاط السياحي فيها أثار قلقًا بيئيًا واسعًا، إذ تجذب سقطرى آلاف السيّاح بجمال شواطئها ومياهها الفيروزية، وشكلت مقصدًا لعشّاق الطبيعة والمغامرة، غير أن هذا التدفق السياحي بات يمثل ضغطًا شديدًا على بيئتها الهشة.
ويقول الناشط البيئي المحلي علي يحيى، منسق جولات سياحية في الجزيرة:"السلطات وافقت على تحديد عدد الزوار سنويًا بـ 4500 سائح فقط، ومنعت البناء أو الفنادق الكبيرة في المناطق البيئية الحساسة، لكن بعض الشركات السياحية تتجاوز الضوابط"
ولا تقتصر التهديدات على البيئة فحسب، إذ يرى يحيى، أن السياحة بدأت تؤثر كذلك على النسيج الاجتماعي والثقافي للجزيرة، التي يبلغ عدد سكانها نحو 60 ألف نسمة، لا يزال كثير منهم يتمسّكون بتقاليدهم العريقة ويتحدّثون باللغة السقطرية القديمة، وهي لغة شفوية غير مكتوبة تعود جذورها إلى ما قبل الإسلام.
وقال يحيى: «السلوكيات الأجنبية بدأت تؤثر في السكان المحليين، ونخشى أن يؤدي ذلك إلى تآكل تقاليدنا». وأضاف أن السياح مرحّب بهم عموماً، «لكن على بعضهم احترام الخصوصية الثقافية أكثر».
وأشار إلى صورة نُشرت على «إنستغرام» تظهر امرأة ترتدي لباس السباحة تحت شجرة دم الأخوين، قائلاً إنّها أثارت غضب سكان قرية جبلية اعتبروا ذلك تصرّفاً منافياً لقيمهم المحافظة.
أما الدليل السياحي المحلي عبدالرؤوف الجمحي، فأكد في رسائل صوتية أن بعض الزوّار يشعلون النيران أسفل أشجار دم الأخوين، وينقشون كتابات على لحائها، كما يستخدمون الطائرات المسيّرة التي تُزعج الطيور، ويتركون خلفهم النفايات.
ورغم ذلك، شدد الجمحي على أهمية السياحة لسكان سقطرى، موضحا:"السياحة مهمة جدًا لأبناء الجزيرة، فهي مصدر رزق رئيسي للمرشدين وسائقي السيارات وأصحاب الفنادق والمطاعم وبائعي الحِرف اليدوية. لكنها تحتاج إلى تنظيم صارم".
وفي تحذير لافت، قال فان دامه إن بعض الأنواع المهددة بالانقراض تُقتل أو تُؤسر فقط من أجل صور "سيلفي"، مشيرًا إلى اصطياد الحرباء وأنواع نادرة أخرى لهذا الغرض.
ويخشى خبراء البيئة من أن تكرار التجاوزات البيئية، واستمرار استغلال موارد الجزيرة دون رقابة، قد يدفع سقطرى نحو مصير مشابه لجزر "غالاباغوس"، حيث تسببت الأنشطة البشرية غير المنضبطة في انقراض أنواع نادرة وتدهور النظام البيئي.
وقال الجمحي في ختام حديثه:"نتوقع زيادة أعداد السياح في السنوات المقبلة، وهذا سيفرض ضغطًا كبيرًا على الجزيرة. إذا لم تترافق هذه الزيادة مع حماية حقيقية للبيئة، فسقطرى مهددة بخسارة هويتها الطبي.
ورغم الضغوط المتزايدة، يرى فان دامه أن هناك مؤشرات إيجابية، إذ أبدت السلطات في سقطرى انفتاحاً على التعاون، وبدأت مشاريع حماية بيئية يقودها المجتمع المحلي تحقّق تقدّماً ملموساً.
وقال: «المبادرات التي يقودها المجتمع المحلي، إلى جانب الجهود القائمة الأخرى، تُعدّ جوهرية. وطالما استمرّت هذه المبادرات، فهناك أمل حقيقي لمستقبل الجزيرة».