"فيدادوك 16" بأكادير: روابط عائلية وحوار أجيال
Arab
5 hours ago
share

انطلقت الدورة الـ16 (13 ـ 18 يونيو/حزيران 2025) لـ"المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بأكادير (فيدادوك)" بإهداء مؤثّر لروحي فقيدتين: الفاعلة الجمعوية محجوبة إدبوش، التي نذرت حياتها لخدمة قضية الأمهات العازبات بأكادير، وإيزابيل دوبلاثيي، التي واكبت "فيدادوك" منذ انطلاقه، والاحتفاء بذكراها تكريمٌ لجميع متابعيه الأوفياء. أعربت هند السايح، رئيسة المهرجان، عن ترسيخ هذه الدورة الجديدة لرؤية السينما الوثائقية دعامة للغوص في الذاكرة، وتناقل الشاهد بين الأجيال، وفضاء مشجّعا على الحوار والتعلّم والإبداع. أمّا هشام فلاح، مدير "فيدادوك"، فقال إنّ الخيط الناظم لغالبية الأفلام المنتقاة لهذه الدورة كامنٌ في استكشاف الروابط العائلية في كلّ تعقيداتها، وأوّلها الأبوّة والأمومة.

مُعطى طبيعي، بحكم أنّ المهرجان يعطي الأولوية للأفلام الأولى والثانية للمخرجين، وأنّ المؤلّفين يتطرّقون غالباً، في خطواتهم الأولى، لمواضيع قريبة من عيشهم وتجاربهم الحميمة. لم يفت فلاح التنويه بوقع المهرجان على مسار مخرجي أفريقيا والشرق الأوسط، مُعتبراً أنّ المخرج الكونغولي ديودو حمادي، عضو لجنة تحكيم مسابقة الدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان "كانّ"، نال دعم "فيدادوك"، وفاز بالجائزة الكبرى لدورته السادسة (28 إبريل/نيسان ـ 5 مايو/أيار 2014) عن فيلمه الأول "امتحان دولة" (2014).

 

ذاكرة عائلية

يقع "نحن في الداخل"، للبنانية فرح قاسم (الجائزة الكبرى) في تمفصل غني وحمّال لطبقات معانٍ عدّة، بين الخاص والعام، والجمال والالتزام، والذاتية والإرث الثقافي. رغم طابعه الداخلي، المشار له في العنوان، تفتح قاسم، عبر تمثّل علاقتها بوالدها الشاعر الراحل مصطفى قاسم، نوافذ مُشرّعة على الأحوال السياسية للبنان، انطلاقاً من أخبار التلفزيون في البداية من خارج الحقل، أو نافذة غرفتها حيث تحلّ حمامة تبني عشّاً هشّاً لبيضها، بينما تتحرّك في الخلفية مُدرّعات وشاحنات في ثكنة عسكرية مجاورة.

هذا مؤشّر على اضطراب أحوال بلدٍ في فترة انتخابية، قبل أنْ تلوح بوادر ثورة كسرت من أجلها عدسة المخرجة قيود الانحباس اللامرئية بين الجدران (المنزل العائلي، نادي الشعر، فضاء السيارة، مستشفى وعيادات طبية)، لتعانق الجماهير المبتهجة بشوارع طرابلس (شمالي لبنان).

 

 

في خروج الكاميرا وطوافها بمركز ساحة عبد الحميد كرامي سابقاً، "النور" حاليا،ً لالتقاط أجواء حراك "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019)، لمحةٌ دالّة عن أمل، ظلّت قاسم تبحث عنه في قصائد والدها ورفاقه من أعضاء "حلقة الشعراء المُحبطين"، وهذا يُذكّر بـ"حلقة الشعراء المفقودين"، العنوان الفرنسي لـ"مجتمع الشعراء الأموات" (1989) لبيتر وير، ورؤيته للثورة على القيود. وذلك بين أشياء بالغة الصغر، كاختلاجات فراخ الحمامة على طرف النافذة، وأخرى بالغة العظمة، كمصير مجرّة "درب التبّانة" بعد أربع مليارات سنة ونصف المليار، بمناسبة نقاش عابر على هامش قصيدة.

تنتهج قاسم أسلوب اللازمة السردية (Anaphore)، مُعطيةً الانطباع بتكرار الوضعيات. لكنّها تتقدّم بتأنّ، بتناولها من زاوية مختلفة قليلاً في كلّ مرة، نسجاً على أسلوب والدها في تجريب الكلمات وتقليب الأبيات، بحثاً عن القافية والإيقاع المناسبين.

همٌّ مشترك بين الشاعر وكريمته، التي عثرت بدورها على الإيقاع المناسب لإزالة الإحساس بمرور 180 دقيقة (مدّة الفيلم)، وفق طرح تمرير الشاهد بين جيلين، ليس فقط عبر ذريعة كتابة القصائد بغية معايشة الأب ورفاقه في نادي الشعر (تطلق عليه فرح "مجتمعاً مؤقتاً")، بل عبر وراثة طبعه العنيد وغير المهادن (مشهد الجدال حول حادث التلاسن مع أحدهم أثناء قيادة السيارة، الذي تورده قاسم بحذافيره وزمنه الحقيقي).

لا يفتأ الرجل النبيل يُذكّر ابنته بشرط فنائه، كأنّه يوصيها ضمنياً بأنْ تجد له موطئ قدم أبديا في قصيدة نثر بلغة السينما، التي اصطفتها لقول ما يختلج في صدرها. ولعلّ مشهد أرشيف الحفلة الراقصة، المشبع بالموسيقى والأحاسيس العارمة، يمثّل لحظة عود أبدي لريعان الصحة (أليس الرقص أسمى تعبير بلاغي عن ديناميكية الإرادة والجسد، وقبول الحياة في فلسفة نيتشه؟)، وأوج مرثية أوديسية استحقت عن جدارة جائزة كبرى، تحمل اسم فقيدة أخرى هي نزهة الإدريسي، كانت وراء مبادرة خلق "فيدادوك".

 

مآزق عائلية

أمّا جائزة لجنة التحكيم الخاصة، فمُنحت لـ"العصر الذهبي"، للإيطالية كاميلا يانيتي: لوسي شابة من باليرمو، تسافر إلى إنكلترا لدراسة الموسيقى. في البداية، استعدادات والدة لوسي وأختها الصغرى، اللتين قدِمتا إلى إنكلترا لمساندتها في وضع مولودتها الأولى. تتجلّى قوة الفيلم في شجاعة تحمّل عواقب فترات غموض، تتعاقب فيها مشاهد من الحياة اليومية للثلاثي من دون أي تفسير، قبل أنّ تتجلّى الوضعيات تدريجياً، ثم تترابط بينها في فترة موالية. هكذا نتساءل حول العلاقة بين لوسي ورفيقها كيميت، المتحدّر من أفريقيا (جنوبي الصحراء)، الذي يظلّ خارج الحقل في القسم الأول، فلا تتّضح طبيعتها إلاّ عند عودة لوسي وعائلتها إلى باليرمو.

ببراعة، يمزج المونتاج بين ابتذال اليومي والعابر (صبغ شعر، أكلة بيتزا، تدخين لفافة مخدّرات)، والامتداد في الزمن، الذي يرصد تحول لوسي من شابّة مفعمة بطموح فنّي وخفة ـ تستدعيهما يانيتي بين فينة وأخرى في مشهد بالأسود والأبيض للوسي وهي تؤدّي رقصاً معاصراً ـ إلى أمّ تعاني، كي توازن بين تربية رضيعتها والعثور على عمل ومسكن يأويها، في ظلّ اضطراب علاقتها برفيقها.

تغليب الحسي على السردي يُمكّن يانيتي من القبض على تفاصيل بالغة التأثير، كشرط عيش كميل، رفيق أمّ لوسي، الذي يعاني إدمان الكحول، وينطق جملتين في كلّ الفيلم. لكنّ ذلك لا يمنع المخرجة من تقريب حساسية فنه التشكيلي إلينا، واستثمار تعبيرية لوحاته حول شرط عيش الشخصيات وهشاشة وجودها في عالم، يلتقط "العصر الذهبي" أجواءه غير المرحّبة، بفضل طرح خبيء حول حركة هجرة مزدوجة من الجنوب إلى الشمال.

جائزة أفضل عمل أول لـ"أماكّي" (أُمّك)، للجزائرية سيليا بوسبع، التي ذهبت مع زوجها مدير التصوير كريستوفر هوسلر، بإمكانات قليلة وتمويل بحملة تبرعات، إلى تلال سيداما، المعروفة بزراعة حبوب القهوة بجنوب إثيوبيا. صوّرا يوميات الجدة دوريتي، وابنتها مولو التي هجرت بيت زوجها لتعيش بكوخ أمها رفقة رضيعتها ميتا، واليافعة تيغو، حفيدة دوريتي، التي فضّلت العيش مع جدّتها بعد طردها من منزل والديها.

تلتقط كاميرا هوسلر، بشفافية مدهشة، تفاصيل حياة الرباعي الأنثوي في فضاء الكوخ، رغم ضيقه وإشباعه بدخان الفرن، الذي تطهو مولو فيه وجبات تبيعها لعمّال معمل القهوة المجاور، لكسب قوت عيشها بعد تخلّي زوجها عن إعالة ابنتيهما، وفشلها في الحصول على طلاق منه بسبب الطبيعة الدينية المحافظة للمجتمع، والتقاليد التي تجبرها على الحصول على موافقة حكماء القرية.

 

 

يُبئّر "أماكّي" في شخصية الرضيعة ميتا، التي لا تكفّ عن الحركة لاكتشاف محيط الكوخ، وتقليد حركات أمها بتلقائية وابتسامة آسرة. ثم يرصد ميلانخولية تيغو، رغم حداثة سنّها وعلاقتها الملتحمة بجدّتها، مع أنّ الأخيرة قاسية معها. ينصبّ تركيز بوسبع بعدها على معاناة مولو بسبب الأشغال الشاقّة للطهو، والوحدة، وتحرّش زبائن بها. ويعرج على الجدة دوريتي، التي لم يحصّنها تقدّم السن من تلقي لوم الحكماء واحتقار الجيران.

هكذا تبدو البنية السردية لـ"أماكّي"، بفعل توالي التبئير على الشخصيات بتتابع أعمارهنّ، كأنّها تنبري لشرط عيش الأنثى الإثيوبية عامة، ممثلةً في أربع شخصيات مختلفة من عائلة واحدة.

 

تساؤلات وحكايات

إلى ذلك، منحت لجنة التحكيم (المخرجة الفرنسية سيلفي باليو، والمصوّر الفوتوغرافي المغربي مهدي مريوش، والصحافي المتخصّص في الثقافة أبو بكر ديمبا سيسوكو) تنويهاً للكندية صوفي بيدار ماركوت عن "اختفى المشهد عن ناظري"، الذي يستدعي حسّ الكوميديا الكيبيكي، المنزاح لرصد شكوك جارها المخرج المسرحي غابرييل وتردّده في مسار كتابة عرض مسرحي مستوحى من أسطورة سيزيف، ثم إخراجه إلى النور.

ينبني الفيلم على 16 فصلاً متفاوت الطول، يُقدمها صوت ماركوت بجمل تحمل تنويعاً على فكرة العرض بحسب تقلّب غابرييل بين التحدّيات والحواجز الإبداعية التي يواجهها، بحثاً عن معنى علاقة البشر بأحجار من مختلف الأشكال والأحجام. تكمن ابتكارية الفيلم في محو المخرجة الحدود بين مقاربتها الخاصة ومقاربة المخرج المسرحي، ليغدو شكلاً هجيناً بين المسرح والسينما، يزاوج بين نسبة باعية واسعة، تلتقط المناظر الطبيعية البركانية التي يقصدها غابرييل بحثاً عن الوحي، وأخرى مربّعة مؤاتية لشعور بأزمة الصفحة البيضاء في المنزل. ينحو الفصل الأخير إلى تجسيدٍ شاعري للاقتباس الشهير من "أسطورة سيزيف" لألبير كامو، الذي يقترح أنْ "نتخيّل سيزيف سعيداً".

غاب عن التتويج "أبو زعبل 89" البديع، للمصري بسام مرتضى: سفرٌ داخلي في الذاكرة العائلية للمخرج، المسكونة بوجع القبض على محمود مرتضى، والده المناضل اليساري والعمّالي. توفّق بسام في تمثّل أرضية خصبة وخلاّقة لاستعادة الذاكرة، بفضل تعدّد الأشكال (أرشيف مرئي وصوتي، إعادة خلق، استجواب، رسائل صوتية)، وتلمّس جمالية الفنّ داخل الفنّ (مسرح، أغانٍ، أفلام تخييلية، شعر). يستكشف الفيلم، في بدايته، حادثة الاعتقال من وجهة نظر بسام الطفل، قبل أنْ يحاول فهمها باستدعاء شهادة الأم فردوس البهنسي، التي تحكي بشكل واضح وصريح عن تجربتها رغم ظروفها الصحية الصعبة، عكس الأب الذي يحتمي، بفعل انكسارات الاعتقال، وراء الكتمان والسعي إلى كماليات (أثاث "إيكيا")، بحثاً عن استدراك متع ضائعة.

يقبض "أبو زعبل 89" كذلك على شهادات رفاق الأب في السجن والنضال، أوّلهم الممثل سيد رجب، ليغدو فضاءً رمزياً لتلقّي تجربة الاعتقال السياسي وترسّباتها المفضية إلى سوء فهم وتفكّك أسري. يقتصر حضور الأب، في مشاهد انتقاله للعيش في الخارج، على صوت تسجيلات كاسيت كان يبعثها إلى بسام مرتضى، الذي وجد نفسه مُضطرّاً للعب دور أب قبل الأوان، بينما تتحوّل ذكرى الأم حرفياً إلى أرض لاستقبال أول مكاشفة بين الأب وابنه، بعد أنّ ظلاّ طيلة الفيلم طيفين يفصل بينهما حاجز غير مرئي، عبّرت عنه الكادرات بإبداع، ما يعكس فكرة الازدواجية وغياب التواصل.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows