التمكين المعرفي أساس النهضة الحضارية
Arab
3 hours ago
share

لا تنهض الأمم على أساس من الموارد الطبيعية وحدها، كما أنها لا تنهار بسبب غياب السلطة أو ضعف الإدارة فقط، بل يكمن جوهر النهضة الحقيقية في البنية المعرفية التي تتشكّل داخل المجتمع، وتتحوّل ثقافةً جمعيةً تسكن الوعي العام، وتوجّه سلوك المجتمع نحو الإنتاج والإبداع، فالتقدم المعرفي لم يعد مجرّد عنصر مساعد في التنمية، بل أصبح شرطاً أساساً لإنتاج القوة في مختلف أبعادها: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والأمنية، ومن ثمَّ يبقى هشّاً أيّ مشروع تنموي لا يقوم على أساس ترسيخ الثقافة العلمية في وجدان الناس، معرّضاً للتعثّر والسقوط مع أول أزمة تتعرّض لها الدولة، وهو ما أثبتته تجارب تاريخية عديدة. ولنأخذ فنزويلا مثالاً، إذ اعتمدت نموذج الاقتصاد الريعي (Rentier Economy) القائم على النفط، وفشلت في بناء رأس المال البشري القادر على تحقيق التنمية المستدامة، فانهارت اقتصادياً تحت وطأة الأزمات، وتراجعت قدرتها على تحقيق التنمية. يمثل بناء بيئة معرفية حاضنة للعلم والتكنولوجيا، وهو ما يطلق عليه في الدراسات التنموية النظام البيئي للابتكار (Innovation Ecosystem)، ضرورةً استراتيجيةً لـ"سورية الجديدة" لا تقلّ أهميةً عن أيّ استثمار آخر، بل قد تتفوّق عليه في المدى البعيد، من ناحية القدرة على إعادة إنتاج الذات في مواجهة التحدّيات. وهذا يدفع، بشكل أو بآخر، إلى إعادة النظر في السياسات المعرفية، فلا تصاغ من جهة الأعلى فقط، بل تشارك القاعدة الاجتماعية في إنتاجها ضمن تفاعل حيوي دقيق بين السلطة والمجتمع.. فإن أيّ مشروع نهضوي يحتاج إلى تضافر الجهود، وبناء شبكات اجتماعية أفقية/ هرمية، تدرك القيمة الاستراتيجية للعلم، وتتبنّاه خياراً وجودياً، لا باعتباره مساراً مهنياً، أو وسيلةً لتحسين الدخل، وهذا بالضبط ما قامت به دول مثل كوريا الجنوبية وفنلندا، إذ لم يكن التعليم مجرّد سياسة حكومية نشطة فحسب، بل أصبح مشروعاً وطنياً تبنّته الأسرة والمجتمع قبل أن تتبناه الدولة.

لا يتمركز المشروع النهضوي حول أبحاث العلماء ونظرياتهم، فهذا يجعله مشروعاً نخبوياً، بل لا بدّ أن يتمركز حول المجتمع نفسه

بين النخبة العلمية والقاعدة الاجتماعية
لا يتحقّق التمكين المعرفي من خلال بناء مشروع رأسي مُدَعَّم ببرامج حكومية فقط، ولا يمكن أن يُكتب له النجاح إذا اقتصر على النُّخب العلمية والمراكز البحثية، بل لا بدّ له من امتدادات عرضية مساندة وداعمة. ومن هنا، تبرز أهمية المشاركة الاجتماعية الواسعة في تأسيس المعرفة؛ إذ لا يكفي أن يكون التغيير مفروضاً من أعلى الهرم السياسي أو الإداري في الدولة، بل لا بد أن تترافق معه تحولات عميقة جدّاً في القاعدة الاجتماعية، وذلك في شكل يتجاوز النموذج التقليدي لــ"الحلقة الثلاثية" (Triple Helix)، التي تتألّف من الأوساط الحكومية والصناعية والأكاديمية، ليعتمد نموذج "الحلقة الرباعية" (Quadruple Helix)، التي تجعل المجتمع شريكاً أساساً في عملية الابتكار وإنتاج المعرفة، فلا بدّ أن تشارك المدارس والجامعات ووسائل الإعلام، ومؤسّسات المجتمع المدني... إلخ، في تشكيل بيئةٍ معرفيةٍ متماسكة، تفضي تدريجياً إلى إنتاج نسيج اجتماعي متكامل، يدرك أهمية العلم، ويشارك بفاعليةٍ في تحويله تقنياتٍ وأجهزةً وأدوات. احتكار المعرفة ضمن طبقات صغيرة في المجتمع، أو ضمن مؤسّسات حكومية، أو ضمن شركات خاصة تحتكر العلم والتكنولوجيا لأغراض ربحية (شركات الأدوية نموذجاً)، يجعلها عرضة للضمور والانهيار، لا كما يعتقد بعضهم أن احتكار المعرفة يمنح أصحابها مزيداً من القوة، فإن هذا وضع مؤقت لا يمكن أن يستمر كما هو، خصوصاً في ظل المنافسة الساخنة على إنتاج المعرفة في العالم.. لذلك تشعيب العلم والمعرفة والتكنولوجيا، وفتح مصادرها، ومشاركتها في نطاق واسع، هو الطريق الوحيد لتطويرها، وتعزيز الاستفادة منها. ويجب أن يتجاوز التمكين المعرفي حدود النظام التعليمي الرسمي، ليشمل تشكيل بيئة اجتماعية أوسع، تشجّع على التساؤل، وتفتح المجال أمام التجريب، وتدفع باتجاه التفكير التحليلي والنقدي، وذلك يتطلّب منظومةً متداخلةً رأسيةً/ أفقية من المؤسّسات الثقافية، والوسائل الإعلامية، والبرامج المجتمعية، تضمن تحويل المعرفة من المجال الخاصّ إلى المجال العام، فتخرج من ضمير الفرد، وتتشكّل على نطاق أوسع في ضمير الأمة، وتصبح جزءاً من هُويَّتها الثقافية، فالثقافة العلمية حين تتعزّز في البنية العميقة للمجتمع، وتنتشر في البيوت والمحالّ والمتاجر والمصانع، وتصبح قيد التداول في المجالين العام والخاصّ، قبل أن تنتشر في المدارس والمعاهد والجامعات، تكتسب طابعاً جدّياً، وزخماً مؤسّسياً عصياً على التفكّك والانهيار، وتتحوّل رافعةً حضاريةً قادرةً على تأمين مشروع النهضة، وضمان استمراريته.

لا توجد نهضة علمية ومعرفية وصناعية معاصرة إلا وصاحَبتها ثورة رقمية على مستوى إدارة الدولة

تشعيب العلم والمعرفة
لا يكفي أن يتمركز المشروع النهضوي حول أبحاث العلماء ونظرياتهم، فهذا يجعله مشروعاً نخبوياً معزولاً عن الأمة، بل لا بدّ أن يتمركز حول المجتمع نفسه، باعتباره الحاضن والفاعل والمستفيد في وقت واحد.. ويتحقق ذلك حين تصبح المفردات العلمية بحمولتها الصناعية والتقنية جزءاً أساساً من حياة الناس اليومية، لا مجرّد مصطلحاتٍ نخبويةٍ تُتَداوَل في المعاهد والجامعات، وحين تصبح المفاهيم والمصطلحات العلمية لغةً شائعةً على ألسنة الصغار قبل الكبار. هنا تنشأ ثورة معرفية صامتة، لا تنطلق من مراكز الأبحاث والتفكير، بل من البيوت والمتاجر والأسواق... إلخ، لتحوّل المجتمع بأسره مركزاً بحثياً مفتوحاً، أو مختبراً علمياً كبيراً لإنتاج المعرفة. لا بدّ أن تتحوّل الثقافة العلمية لغةً شائعةً في المجتمع، وهو ما يعرف اليوم بـ"المعرفة العلمية العامّة" (Public Scientific Literacy)، والتي تعتبرها منظّماتٌ، مثل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) مؤشّراً حيوياً على مدى جاهزية الأمّة للمستقبل، فيجب ألّا تبقى المعرفة حكراً على فئات ضيّقة من الأكاديميين والمتخصّصين، أو العاملين في القطاعين الصناعي والتقني، بل لا بدّ أن تصبح مفاهيم مثل التطوير والابتكار والبحث العلمي والتحليل التركيبي والتحليل المنهجي والتفكير النقدي، أجزاءً من الخطاب اليومي في المجتمع، فتؤسّس بنيةً تحتيةً ذهنيةً وسلوكيةً، تنتج نمطاً جديداً من التفكير، يعيد تعريف علاقة المجتمع بذاته أولاً، وبالعالم من حوله ثانياً، وإلا تفقد المعرفة تأثيرها العام، وتتحوّل جزراً معرفيةً صغيرة، لا تملك القدرة على إنتاج التحوّل الثقافي الشامل. جرّب صاحب هذه المقالة مرّةً تجربةً في نطاق محدود، جعل لها عنواناً "تشعيب العلوم"، وضبطَ التجارب من خلال عناوين واضحة تساعد على استقرار الذهن وتحديد الهدف في أثناء العمل، وقرّر البدء بمادّتَين؛ أصول الفقه، وهي مادّة تشتبك فيها اللغة مع الفلسفة مع المنطق والجدل، تشكّل أداةً من أدوات التحليل والتأصيل في الفقه الإسلامي؛ علوم الحديث، وهي مادّة تؤسّس منهجاً متكاملاً ونظريةً معرفيةً صارمةً في تلقّي الأخبار ومحاكمة الروايات، وبدأ البرنامج مع مجموعة من الشباب، وراقب الباحث من كثب التحوّلات المنهجية التي طرأت على تفكيرهم، وكانت النتائج مذهلة حينها، إذ أمكن تلخيص التجربة بنجاحها في تحويل المادَّتَين إلى سلوك اجتماعي، وأسلوب معرفي، ومنهجية حكم، لدى كلّ الأفراد الذين تشرّبوا المادّتين، وتمثّلوا مضامينها، وتميّزوا في اختباراتها المكثّفة. تؤكّد هذه التجربة في جوهرها مبدأً علمياً وتربوياً عميقاً، أن تبسيط المعرفة وإيصالها إلى الجماهير لتصبح ثقافة عامة، وتدريب الناس على المنهجيات العلمية التحليلية، حتى لو كانت من حقول معرفية غير معتادة لديهم، سوف يؤثّران بشكل مباشر في بناء شخصيتهم، وتمكينهم من تأسيس مهارات معرفية قابلة للنقل (Transferable Skills)، وهي جوهر القدرة على التفكير النقدي والابتكار في أيّ مجال آخر.

مشاريع التحوّل الرقمي التي تنتقل إليها الدول اختبار حقيقي لقدرة المجتمعات على التكيّف المعرفي والثقافي مع أدوات العصر وآلياته

التكنولوجيا إبداع في التفكير
ليست التكنولوجيا مجرّد أدوات حديثة، أو أجهزة متطوّرة يستخدمها الإنسان، بل هي قبل ذلك تعبير عن منظومة عقلية وقيمية شاملة، تعيد تعريف طريقة التفكير لدى الإنسان، وتعزّز منطق التحليل والتركيب، وتفتح المجال أمام الحلول الإبداعية المبتكرة. إنها في حقيقتها تجسيد لـ"ثقافة متجذّرة" في المجتمع، قبل أن تكون واحدةً من أدوات إنتاجها وتطويرها. وعليه، ليس تمكين المجتمع علمياً مسألةَ رفاه معرفي، أو ترفٍ فكري، بل هو ضرورة استراتيجية تضمن لسورية تحقيق ثلاثة أهداف: الاستئناف الحضاري، والاستقلال السياسي، والتجدّد الذاتي، وهذا المسار الاستراتيجي هو الذي يمنح السوريين القدرة على مواكبة التحوّلات، ومواجهة التحدّيات، وهو ما كانت تفتقده الدولة السورية عبر عقود من الخيبة والألم، فحين تصبح التقنية جزءاً أساسياً من حياة الناس، لا مجرّد أداة استهلاكية، أو مشروعاً رأسياً تنتجه السلطة، يغدو المجتمع أكثر قدرة على الاستجابة للتحدّيات، وإعادة إنتاج المعرفة خلال الأزمات، بل ربّما كانت الأزمات، بحسب أرنولد توينبي، إحدى أكثر محفزّات المعرفة والابتكار أهميةً، ضمن قاعدة التحدّي والاستجابة، وهو ما يفسّر النهضة المذهلة التي قامت بها دول، مثل ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، فلم تكن القضية في إعادة الإعمار فحسب، بل كانت في استنهاض المنظومة المعرفية والثقافية التي كانت كامنةً تحت الركام. لقد أظهرت التجارب التاريخية الحديثة أن المجتمعات التي استطاعت النهوض بعد مرورها بأزمات كبرى، لم تعتمد على قرارات مركزية تصدرها القيادة العليا في الدولة، بل كانت تمتلك جذراً حضارياً راسخاً، وأساساً معرفياً صلباً، ومؤسّسات مجتمعية حيوية قادرة على استعادة المبادرة بسرعة، وتوجيه طاقات المجتمع إلى الأماكن الصحيحة والفاعلة. وهو ما تجلّى بوضوح في نهضة ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، أو ما عرف بـ"المعجزة الاقتصادية" (Wirtschaftswunder / Economic Miracle)، التي لم تكن وليدة خطّة مارشال فحسب، بل كانت نتاج استفزاز الطاقات البشرية، وتفعيل الثروة المعرفية (Knowledge Capital) المتراكمة أصلاً، فحين تتجذّر المعرفة في المجتمع، تصبح أداةً دافعةً ورافعةً، تمنع حدوث الانهيار، وتساهم في تحقيق النمو والازدهار، حتى في أحلك الظروف السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية التي قد تمرّ بها الدولة. وعليه، أفضل الطرق لتحقيق الأمن التكنولوجي (Technological Security) هو إنتاج المعرفة، ولا يعني هذا إعادة اختراع العجلة، أو البداية من الصفر، فاستيراد التكنولوجيا ضمن خطّة استراتيجية مؤقّتة يُعدّ جزءاً من إنتاجها، شريطة أن يكون استيرادها بهدف التعلم، والتفكيك، والتطوير، وإعادة الإنتاج، لا بهدف تعميق الاستهلاك، وتحقيق الرفاه المؤقّت.

لتحقيق التغيير البنيوي ضمن رؤية استراتيجية بعيدة المدى، لا بدّ من إرادة سياسية عليا، تتبنّى مشروعاً وطنياً طويل الأمد، يبدأ من دعم التعليم باعتباره المحرّك الأساسي للنهضة

التحوّل الرقمي تغيير في العقليات
التحوّل الرقمي أحد العناوين البرّاقة التي يتم تداولها بكثرة عند الحديث عن التقدّم المعرفي والتكنولوجي في العالم، ولا تكاد تجد نهضةً علميةً ومعرفيةً وصناعيةً في أيٍّ من تجارب النهضة المعاصرة إلا وصاحَبتها ثورة رقمية على مستوى إدارة الدولة؛ لأنها تسهّل وتسرّع عملية التغيير، وتعزّز الفائدة القصوى منها. لم تكن كلّ التجارب الرقمية الناجحة في العالم (سنغافورة نموذجاً)، مجرّد مشاريع تقنية، بل كانت نتيجة تراكم فكري وثقافي داخل المجتمع، وعمليات تربية وتدريب وتحفيز للمجتمع إلى الدخول في العالم الرقمي، من خلال تكامل الجهود بين المؤسّسات الحكومية ومؤسّسات المجتمع المدني. لقد أصبح التحوّل الرقمي اليوم عنواناً بارزاً لدى النخبة السياسية والفكرية، باعتباره انتقالاً نوعياً من المكاتب التقليدية والأنظمة الورقية إلى التطبيقات الذكية والأنظمة الرقمية، إلا أن الحقيقة الأهم في هذا التحوّل ما يعكسه من تحوّلات عميقة في البنية الذهنية والوظيفية للمجتمعات والمؤسّسات. ليست مشاريع التحوّل الرقمي التي تنتقل إليها الدول مجرّد تحديث تقني، أو تحسين للإجراءات الإدارية فحسب، بل هي اختبار حقيقي لقدرة المجتمعات على التكيّف المعرفي والثقافي مع أدوات العصر وآلياته. فالتحول الرقمي هو تحوّل في المنظومة الفكرية قبل أن يكون تحوّلاً في المنظومة الإدارية، وهو تحوّل في العقليات قبل أن يكون تحوّلاً في البرمجيات، وهو تحول في السلوك المعرفي قبل أن يكون تحوّلاً في السلوك الاجتماعي، إذ لا يمكن للدولة أن تنجح في رقمنة الخدمات والمؤسّسات إن لم يسبق ذلك رقمنةٌ حقيقيةٌ في الوعي لدى المجتمع، وإعادة تعريف للعلاقة التي تربط الفرد بالدولة، والإنسان بالمعلومة، والموظّف بالإجراء، والمؤسّسة بالمجتمع. التحوّل الرقمي اختبار حقيقي للمرونة الذهنية، والقابلية الثقافية على استيعاب هذا التحوّل. ومن ثمَّ يمكن اعتبار التحوّل الرقمي أحد أهم أدوات القياس التي تكشف لنا مدى جاهزية المجتمع والدولة على تحقيق انطلاقة حضارية راشدة، وتأسيس مشروع نهضوي متميّز.

لا يعني توطين التكنولوجيا إنتاجها ضمن حدود الدولة، بقدر ما يعني تحويلها ثقافةً مجتمعية، تفضي إلى نهضة علمية صناعية متزامنة

القيادة الراشدة لا تكفي
لتحقيق التغيير البنيوي ضمن رؤية استراتيجية بعيدة المدى، لا بدّ من إرادة سياسية عليا، تتبنّى مشروعاً وطنياً طويل الأمد، يبدأ من دعم التعليم باعتباره المحرّك الأساسي للنهضة، وصولاً إلى إعادة تشكيل النظرة العامة إلى المعرفة بوصفها أداة تحرير وتقدّم. كما أن تهيئة بيئة معرفية محفّزة ومنتجة تتطلّب تضافر الجهود بين الدولة، والقطاع الخاصّ، والمجتمع المدني، لبناء نظام ثقافي شمولي، يدعم التساؤل بوصفه أحد أهم مفاتيح المعرفة، والتجريب بوصفه أحد أهم أدوات الوصول إلى الإجابة، ولا يكتفي بتعزيز مفاهيم وأساليب نمطية، مثل الحفظ والتذكّر والتلقين، باعتبارها وسائل لــ"استنبات المعرفة" والحفاظ عليها، وترتيب هذه الثلاثة عكساً يرتبط بــ"الواقع السوري الجديد" تحديداً. ولا أعتقد أن هذا الترتيب الذي يضع المجتمع المدني في المقدّمة يمثل رؤية طوباوية كما قد يظن بعضهم، بل هو ضرورة استراتيجية تؤكّدها دراسات إعادة الإعمار ما بعد الحرب، التي تعتبر أن قدرة المجتمع المدني على الحشد والتنظيم والبناء هي العامل الحاسم والأبرز في طريق التعافي عند ضعف مؤسّسات الدولة. وإذا كانت الإرادة السياسية العليا ضرورةً لإنتاج مشروع النهضة، فإن وجود قيادة سياسية راشدة قادرة على توجيه الدفّة غير كافٍ في إنتاج التحوّلات الكبرى، وإحداث التغييرات الجذرية، بل لا بد أن يوجد التحوّل والتغيير والقابلية في القاعدة الاجتماعية أولاً، بحيث تصبح المعرفة المنتجة للمادة ثقافة عميقة وراسخة في المجتمع، ومن ثَمَّ تتحوّل إلى حالة صلبة في مؤسّسات الدولة، لا تتأثّر بالمتغيّرات مهما كان نوعها، ومهما كانت شدّتها. أحد أكبر التحدّيات التي تعيق مسار النهضة في الدول التي خرجت حديثاً من الحرب ليس ضعف الإمكانات المادية فحسب، بل هو الطابع النُّخبوي للمعرفة العلمية كما تقدّم ذكره، وما لم يعتبر المجتمعُ نفسَه طرفاً مؤسّساً وفاعلاً في قيادة المشروع العلمي في الدولة، سوف تبقى التكنولوجيا والتقنية جسماً غريباً عنه، وربّما يعتبرها في بعض الظروف مصدر تهديد وهدم، لا مصدر قوة وعزم. وفي أحسن الأحوال، ربّما تتحوّل مجرّدَ فضولٍ معرفي، لا يتطوّر في صورة منتجات حضارية رصينة. إن التحوّلات الكبرى لا تتم عبر تعزيز الاستخدام التقني وتعميمه فحسب، ولا تتحقّق بمجرد نقل الخبرات، أو استيراد المنتجات أيضاً، إن الفارق الجوهري يكمن في الانتقال من مرحلة امتلاك التكنولوجيا إلى مرحلة توطين التكنولوجيا. وتوطينها لا يعني إنتاجها ضمن حدود الدولة، بقدر ما يعني تحويلها ثقافةً مجتمعية، تفضي إلى نهضة علمية صناعية متزامنة. وهذا هو الدرس العميق الذي ينبغي أخذه من إصلاح ميجي (Meiji Restoration) في اليابان، إذ لم تكتف اليابان باستيراد التقنية الغربية، بل أرسلت بعثات دراسية لفهم المبادئ العلمية والهندسية، والمنظومات الثقافية والإدارية التي أنتجتها، وذلك بهدف بناء قدرة تكنولوجية ذاتية ومستقلة.
خاتمة
لا يتحقّق بناء نهضة علمية راسخة إلا بترسيخ الثقافة التكنولوجية في وجدان المجتمع، وتحويلها من معرفة متخصّصة إلى ظاهرة ثقافية عامّة، وهذا لا يتطلّب استثمارات مادّية ضخمة، بقدر ما يتطلّب إرادة ثقافية عميقة وواعية، تدرك أن الرهان الأكبر في هذا العصر هو على من يمتلك المعرفة، لا على من يستهلكها، وأن الثروة الحقيقية لم تعد تستخرج من باطن الأرض، بل أصبحت تستخرج من الأفئدة والعقول، وما يتبع ذلك من مؤسّسات قادرة على تنظيم المعرفة، وترتيبها، وتبويبها، وتحويلها من طموح حضاري قيد التفكير إلى مشروع حضاري قيد الإنشاء.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows