
أطلقت محافظة إدلب بالتعاون مع وزارة الطوارئ والكوارث، حملة واسعة لإزالة الركام من المناطق المدمرة في ريف المحافظة، في إطار خطوات عملية تهدف إلى تسريع عودة الأهالي النازحين إلى منازلهم، بعد سنوات طويلة من التهجير والدمار الذي طاول مناطقهم. وجاءت هذه الحملة عقب اجتماع موسع عقد في مبنى المحافظة، حضره محافظ إدلب محمد عبد الرحمن، ووزير الطوارئ والكوارث رائد الصالح، إلى جانب مديري المناطق الإدارية في إدلب ومعرة النعمان وخان شيخون. وجرى خلال الاجتماع الاتفاق على رفع وتيرة العمل من خلال زيادة عدد الآليات والمعدات الثقيلة المخصّصة لإزالة الأنقاض، إضافة إلى التوسع في عمليات تطهير المناطق من الألغام ومخلفات الحرب، عبر دعم الفرق الهندسية المتخصّصة.
وفي إطار المتابعة الميدانية، تفقد الوفد الحكومي بلدات سراقب، ومعرة النعمان، وعدداً من القرى الواقعة في الريف الشرقي للمحافظة، وأطلع على حجم الدمار الكبير الذي لحق بالبنية التحتية والمنازل. وأكد المسؤولون أن الحملة تتجاوز إزالة الركام لتشمل استعادة الخدمات وتعزيز الأمان بإنشاء مراكز طوارئ وتأمين المناطق من الألغام، وأن خطة إعادة الإعمار تهدف إلى عودة كريمة للسكان، فيما أعرب السكان عن أملهم في أن تكون هذه الحملة بداية جادة نحو إعادة الحياة الطبيعية إلى مناطقهم، في ظل الحاجة الملحّة إلى تأمين المياه والكهرباء والمدارس والمراكز الصحية.
وفي أحد الشوارع الرئيسية المدمّرة في مدينة معرة النعمان، وقف خالد معمار، وهو رجل في مطلع الأربعينيات، يتأمل أنقاض منزله الذي كان فيما مضى مأوى لأسرة مكونة من خمسة أفراد. عاد إلى المدينة مؤخراً بعد سنوات من النزوح، على أمل استئناف حياته من جديد، إلّا أنّه فوجئ بواقع أكثر قسوة مما توقع. وأشار معمار في حديثه مع "العربي الجديد" إلى أن قرار العودة جاء بعد معاناة طويلة في النزوح، من التنقل بين الخيام ومراكز الإيواء، ومن حياة مؤقتة ومفتقرة لأبسط مقومات الاستقرار. ومع ذلك، فإنّ العودة في ظل الظروف الراهنة لا تعني بداية جديدة بقدر ما تكشف عن عمق المأساة. فالمنازل مدمرة بالكامل، ولا توجد شبكات مياه أو كهرباء أو أي نوع من الخدمات الأساسية، ما يجعل استئناف الحياة شبه مستحيل. وأكّد أن إزالة الأنقاض من الطرقات قد منحت الناس بارقة أمل، لكنها لم تلبِّ أدنى متطلبات العيش، إذ لا تزال الأنقاض تملأ المنازل والقلوب على حد تعبيره، في إشارة إلى المعاناة النفسية والاجتماعية المستمرة. وأعرب خالد عن قلقه من أن تؤدي العودة العشوائية، دون تأمين الخدمات الأساسية، إلى نزوح جديد. فقد شهد بنفسه كيف اضطر كثيرون للرحيل مرة أخرى بعد أن اصطدموا بواقع غياب البنية التحتية، وشدّد على أن العودة يجب أن تكون جزءاً من خطة مدروسة توفر الأمن والخدمات والدعم للسكان، لا مجرد رفع للركام من الشوارع.
وفي السياق، شدّد الناشط المدني بلال الأحمد، على أهمية الحملة، واصفاً إياها بالخطوة الضرورية، لكنها تبقى غير كافية ما لم تستكمل بخطة شاملة لإعادة الإعمار تنطلق من احتياجات الأهالي أنفسهم، وليس من خطط مركزية مغلقة لا تأخذ الواقع المحلي في الاعتبار. وأوضح الأحمد لـ" العربي الجديد": أن العاملين في الميدان يدركون أن الأنقاض ليست مجرد حجارة مكسورة، بل تجسد غياب الدولة والبنية الأساسية، وغياب الأمل لدى السكان. وبيّن أن رفع الأنقاض، وإن كان ضرورياً، لا يعدو كونه إجراء مؤقتاً ما لم يترافق بإصلاح حقيقي يشمل التعليم، الصحة، المياه، والكهرباء.
وأكد أنّ أي خطة ناجحة يجب أن تنطلق من قاعدة المجتمع، ومن أصوات الناس واحتياجاتهم اليومية، مع رفض المشاريع المفروضة من دون مشاركة محلية حقيقية، وشدّد على أن إعادة الثقة بين المواطن والمؤسسات أهم من إعادة الجدران، إذ يمكن بناء الجدار في يوم، لكن بناء الثقة يتطلب سنوات. وفيما يخصُّ دور المجالس المحلية والمجتمع المدني، لفت الأحمد إلى أهمية إشراكهما في قلب مشاريع العودة والإعمار، قائلاً إن الأهالي يعرفون جيداً أولوياتهم واحتياجات كل حي وشارع وقرية، بعد أن أرهقتهم الوعود الفارغة، ويريدون أن يكون لهم دور فعلي في صياغة مستقبلهم. مشيراً إلى التحديات الأمنية والخدمية التي لا تزال قائمة في عدد من القرى، إذ لا تزال تعاني من التلوث بالألغام ومخلفات الحرب، إضافة إلى غياب شبه تام للبنية الصحية والتعليمية، ما يعيق عودة مئات العائلات على الرغم من إزالة الركام، وشدّد على أن الناس لا يعودون فقط لأن الطريق بات سالكاً، بل لأنهم بحاجة إلى مدرسة لأطفالهم، ومستوصف للرعاية الصحية، ومصدر رزق كريم.
مدن شاهدة على الموت في إدلب
وفي مدينة الحجر الأسود جنوبي دمشق، التي تعرضت لتدمير واسع وهُجّر أهلها قسراً خلال سنوات الحرب، لا تزال شاهدة على فصول الموت والدمار، بانتظار العدالة والأمل ليعاد إليها نبض الحياة. قال عدي المسعود، أحد سكان المدينة العائدين، في حديث لـ"العربي الجديد" أنه عاد إلى منزله في الحجر الأسود قبل نحو أربعة أشهر بعد أن كان يقيم في منطقة جديدة الفضل بريف دمشق. وأشار إلى أن الأوضاع ما تزال بالغة السوء، إذ لا تزال الأنقاض تغلق معظم الطرق، خصوصاً الفرعية منها، وأضاف أن بعض الشوارع الرئيسية فقط خضعت لإزالة الركام، فيما لا تزال الأزقة بحاجة إلى تدخل عاجل من البلديات.
وتساءل المسعود عن الجهة التي من المفترض أن تعمل على فتح الطرق وتأهيل البنية التحتية، قائلاً: "هل يعقل أن يتحمل الأهالي المنهكون هذه المهمة؟ نحن من نعود لترقيع منازلنا باستخدام الأغطية القديمة بدلاً من الأبواب والنوافذ"، ولفت إلى أنّ عدم وضوح الجهة الإدارية التي تتبع لها المنطقة، والتي سكانها من محافظة القنيطرة، وتتبع إداريا لريف دمشق، يسهم في إطالة أمد معاناة أهلها، فكل جهة تلقي بالمسؤولية على الجهة الأخرى، وهو ما كان عليه الحال منذ عهد النظام السابق. وانتقد المسعود التفاوت في الجهود بين دمشق ومحيطها، إذ يرى فرقاً واضحاً في وتيرة العمل في العاصمة مقارنة بما تشهده مناطق مثل الحجر الأسود والقدم ومخيم اليرموك من إهمال. وأوضح أن أبناءه المهجرين في الشمال السوري ساعدوه في ترميم جزء من المنزل، لكن المقومات الأساسية للحياة ما تزال مفقودة، ما يجعل عودة السكان محفوفة بالتحديات.
وكان محافظ القنيطرة أحمد الدالاتي زار المنطقة قبل فترة وأطلق جملة من الوعود أمام الأهالي، لكن عملياً لم يعقب الزيارة سوى وصول عدد من الآليات التي عملت لبضعة أيام في رفع الأنقاض ثم توقفت، مشدداً على ضرورة تخصيص آليات لبلدية الحجر الأسود نفسها لتولي رفع الأنقاض يومياً، وليس على شكل هبات متباعدة حين تصل آليات من جهة ما. وفي ظل هذا الواقع، يبقى مطلب الأهالي واضحاً في تأمين البنية التحتية والخدمات الأساسية، لا مجرد إزالة رمزية للركام، حتى تكون العودة حقيقية ومستدامة، لا خطوة أخرى في دائرة النزوح والانكسار.

Related News
