
شهدت إيران خلال الفترة الأخيرة تصعيداً عسكرياً غير مسبوق مع إسرائيل استمر 12 يوماً، أعاد رسم ملامح التوتر في المنطقة، وفتح الباب أمام سيناريوهات سياسية واقتصادية معقدة. فعلى الرغم من أن الحرب لم تتوسع إلى مواجهة شاملة، بدأت تداعياتها المباشرة وغير المباشرة تنعكس على الاقتصاد الإيراني الذي يعاني أصلاً ضغوطاً متعددة أبرزها العقوبات الغربية، وارتفاع معدلات التضخم، وتراجع العملة الوطنية. وقد أظهرت المواجهة الأخيرة هشاشة البنية الاقتصادية في مواجهة الأزمات الأمنية، إذ تعرضت منشآت صناعية وعسكرية لهجمات مباشرة، وارتفعت تكاليف الدفاع والإنفاق العسكري في ظرف اقتصادي دقيق.
كما سبَّبت الحرب زعزعة ثقة المستثمرين المحليين والأجانب، وزادت من عزلة إيران في الأسواق العالمية، وسط تصاعد التحذيرات من عودة شبح الركود وازدياد الضغوط على المالية العامة. وذكر الباحث في مركز الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لمعهد دراسات السياسة الخارجية بميلانو ISPI، لويجي تونينيللي، أن "الاقتصاد الإيراني، الذي كان يئن بالفعل من آثار إعادة فرض العقوبات الأميركية في ولاية ترامب الأولى عام 2018، كان قد تمكن من الصمود في وجه الضغوط الغربية، على وجه الخصوص بفضل صادرات النفط بأسعار مخفضة إلى الصين. وحتى قبل اندلاع الحرب، كانت مؤشرات الاقتصاد الكلي تشير إلى الصعوبات التي تمر بها الجمهورية الإسلامية، وهي مؤشرات مرشحة للتدهور أكثر في مرحلة ما بعد الحرب".
وتابع تونينيللي، في حديث خاص لـ"العربي الجديد"، أن عجلة الاقتصاد الإيراني أصيبت بشبه شلل خلال فترة النزاع، إلا أن الآثار الأولى من المنتظر أن تظهر بقوة خلال الأيام المقبلة. فعلى سبيل المثال، من المنتظر أن تواصل العملة الوطنية فقدان قيمتها، في مسار انحداري بدأ في الأشهر الأخيرة. كما ستواجه سلاسل الإمداد صعوبات كبيرة"، مضيفاً أن "إيران سوف يتعين عليها من ثم تخصيص اعتمادات مالية ضخمة لإعادة إعمار بنيتها التحتية المدنية والعسكرية والطاقية، التي تعرضت للقصف الإسرائيلي. هذه البنى التحتية كانت تجد مشقة تلبية احتياجات البلاد الطاقوية".
وتابع: "ينبغي للجمهورية الإسلامية العمل على إعادة إعمار وتعزيز برنامجها النووي الذي استثمرت فيه موارد هائلة في العقدين الماضيين، وعلى وجه الخصوص منظومتها الدفاعية التي دمرتها إسرائيل من دون عناء كبير. وفي هذا السياق، أدركت إيران مدى عدم كفاءة الأسلحة الروسية، وقد تسعى إلى الحصول على دعم الصين من أجل تعزيز قدراتها الردعية".
ورأى أن "إيران لا يمكنها حالياً الاعتماد على موارد أخرى غير تلك المرتبطة بعائدات مبيعات النفط. وفي هذا السياق، يبدو أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قد أعطى بالفعل الضوء الأخضر لاستمرار مشتريات الصين من النفط الإيراني. والحقيقة أن السوق الصيني سوف يظل ضرورياً لطهران، ويمثل المتنفس الوحيد لاقتصادها"، مشيراً إلى أنه "من هذا المنطلق أيضاً، لم تقدم إيران على إغلاق مضيق هرمز خلال الحرب، لأن مثل هذه الخطوة كانت ستلحق الضرر باقتصاد بكين، شريكها التجاري الرئيسي". وختم الباحث الإيطالي بقوله إنه "على الرغم من انتهاء الحرب ظاهرياً، لكن ثمة الكثير من التحديات التي سيتعين على الجمهورية الإسلامية مواجهتها في ظل ندرة الموارد المتاحة في الوقت الحالي".
وفي السياق، ذكر موقع "Money" الإيطالي الاقتصادي في تقرير صدر بتاريخ 24 يونيو/حزيران تحت عنوان "كيف هو حال الاقتصاد في إيران"، أن إيران خاضت حرب الـ12 يوماً الأخيرة مع إسرائيل بينما يعاني اقتصادها بالفعل حالة إنهاك مزمن ناجمة عن عقود من العقوبات وسوء الإدارة الاقتصادية وارتفاع معدلات التضخم وتقلّص التبادلات التجارية مع الأسواق الدولية. ولفت إلى أن صندوق النقد الدولي توقّع، قبل اندلاع الحرب، أن ينمو الاقتصاد الإيراني بنسبة لا تتجاوز 0.3% خلال عام 2025، بعد تباطؤ طويل استمر لسنوات. غير أن هذه التقديرات تعرّضت منذ ذلك الحين لضغوط مراجعة، في ظل التأثيرات المباشرة للصراع الأخير، ولا سيما من حيث ارتفاع الإنفاق العسكري وتعطّل بعض الأنشطة الإنتاجية في المناطق المستهدفة.
وتُشير تقديرات غير رسمية إلى احتمال دخول الاقتصاد في حالة نمو سلبي مؤقت خلال الربع الثاني من العام، وسط تراجع الثقة في بيئة الاستثمار، وتقلّص قدرة الدولة على إدارة الإنفاق العام بكفاءة. وتابع الموقع أنه علاوة على ذلك، اشتدت أزمة التضخم التي أصبحت سمة مزمنة للاقتصاد الإيراني منذ 2007، إذ ارتفعت الأسعار بوتيرة متسارعة بعد الحرب نتيجة زيادة تكاليف النقل، وشحّ بعض المواد الأساسية، وازدياد المضاربة على الدولار في السوق السوداء. وأشار إلى أن معدلات التضخم تجاوزت 40% في معظم التقديرات لعام 2024، ويتوقع أن تبلغ 43.3% في 2025 وفقاً لصندوق النقد، مع تراجع قيمة الريال الإيراني إلى أدنى مستوياته التاريخية، حيث تجاوز الدولار الواحد حاجز المليون ريال في ذروة الأزمة خلال عطلة النوروز.
واستدرك أنه على الرغم من الإجراءات التقييدية التي اتخذها البنك المركزي، بما في ذلك رفع سعر الفائدة إلى 23%، لم تتمكن السلطات من احتواء دوامة الغلاء، التي عمّقت الفجوة بين الطبقات، ودفعت المزيد من الإيرانيين إلى ما تحت خط الفقر، الذي قُدّرت نسبته رسمياً بـ33%، بينما أشارت تقديرات غير رسمية إلى أنه قد يتجاوز 50%. وأوضح الموقع أن الحرب أثّرت أيضاً على حركة التجارة الخارجية، التي تعاني أصلاً انكماشاً حادّاً منذ إعادة فرض العقوبات الأميركية في 2018. فقد أظهرت البيانات أن العجز التجاري لإيران بلغ في آخر ستة أشهر حتى سبتمبر 2024 نحو 7.16 مليارات دولار، وهو أعلى مستوى يُسجَّل خلال السنوات الأخيرة.
كما أشار تقرير صادر عن البرلمان الإيراني إلى أن اعتماد طهران المفرط على عدد محدود من الشركاء التجاريين مثل الصين والعراق وتركيا، يجعلها أكثر عرضة للصدمات الخارجية. هذا العجز ارتفع إلى 14.6 مليار دولار خلال السنة الإيرانية المنتهية في مارس، وسط محاولات الحكومة استيراد كميات كبيرة من الذهب بوصفها ملاذاً لمواجهة العقوبات وتذبذب العملة. ولفت إلى أنه في ما يتعلق بالصادرات، انهارت قيمتها من 93.2 مليار دولار في 2018 إلى 13.2 مليار فقط في 2023. وتشمل المنتجات المصدرة بوليمرات الإيثيلين وخام الحديد ومشتقات كيميائية، بينما تراجعت صادرات النفط بسبب القيود الدولية.
في المقابل، تركزت الواردات على المعدات الإلكترونية والحبوب والسيارات، خاصة من الصين والإمارات وتركيا والبرازيل. ونتيجة لتراجع عوائد التصدير، أصبحت الميزانية العامة أكثر هشاشة، ما زاد من الضغط على الحكومة الإيرانية لتمويل نفقاتها من خلال الاقتراض الداخلي أو الاستنزاف المستمر لصندوق التنمية الوطني. وأشار إلى أن ثمة تدهوراً إضافياً شهده سوق العمل بعد الحرب، إذ ارتفع معدل البطالة العامة من 7.2% في 2024 إلى توقعات تبلغ 9.5% في 2025، ومن المنتظر أن تنخفض بشكل طفيف إلى 9.2% في 2026. إلا أن المؤشرات الأخطر تتعلق بالشباب، حيث تشير البيانات إلى أن قرابة 20% من الشباب في سن العمل عاطلون، فيما يمتنع كثيرون منهم عن البحث الفعلي عن وظائف.
وقد تفاقمت الأزمة في قطاعات مثل الطاقة والصناعة والخدمات، التي شهدت اضطرابات نتيجة المخاوف الأمنية، وانخفاض الطلب، وصعوبة الاستيراد. واستدرك الموقع أنه على الرغم من هذا المشهد القاتم، يتمتع الاقتصاد الإيراني ببعض الهوامش التي تُمكّنه من البقاء بعيداً عن الانهيار الشامل. فالدين الخارجي منخفض جداً ولا يتجاوز 1.9% من الناتج المحلي، ما يخفف من تأثير ارتفاع أسعار الفائدة العالمية. كما أن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي لا تزال عند مستويات مقبولة تبلغ 36.8%. لكن هذه الأرقام لا تعكس الصورة الكاملة، إذ إن صندوق التنمية الوطني قد تآكل بفعل عمليات السحب المتكررة، والدين الداخلي لا يُحتسب ضمن الإحصاءات الرسمية بشكل دقيق.
وخلص إلى أن الحرب الأخيرة لم تؤدِ فقط إلى تفاقم الأزمات الهيكلية القائمة في الاقتصاد الإيراني، بل كشفت أيضاً عن مدى هشاشته في مواجهة الأزمات الخارجية. فمع كل ضربة صاروخية، كان هناك ارتداد اقتصادي يمسّ معيشة المواطن ويربك السياسات العامة ويُصعّب على الحكومة تنفيذ أي إصلاحات هيكلية شاملة. وختم التقرير بقوله إنه إذا لم تتراجع حدة التوترات الجيوسياسية، فإن الاقتصاد الإيراني سيظل عالقاً في حلقة مفرغة من التضخم والانكماش والبطالة والعجز التجاري في وقتٍ تزداد فيه عزلة البلاد عن المنظومة الاقتصادية الدولية.

Related News
