نحن الزجاجيون واللامرئيون في نفس الوقت
Arab
4 hours ago
share

في عالم يزداد تَشبُّعًا بالخطابات حول حقوق الإنسان، الأمن، والحرية، يبدو أننا بشر الشرق الأوسط لم نعد نُرى إلا كإحصائية هامشية في نشرات الأنباء، أو كجسم رقمي مكشوف في قواعد بيانات أنظمة المراقبة العالمية. لقد صرنا في آنٍ واحدٍ غبارًا بشريًا، لا مرئيًا، لا يثير الانتباه ولا يستدعي التعاطف، وفي ذات الوقت بتنا مخلوقًا زجاجيًا تُخترق حرمته الرقمية والوجودية بتقنيات حوّلت جلودنا إلى قشرةٍ زجاجيةٍ كاشفة لكلّ بياناتنا تحت ذرائع الأمن ومكافحة الإرهاب وحتى تحسين الخدمات. هذه الازدواجية السريالية، التي تجمع بين الإقصاء الوجودي وانتهاك الحدود الشخصية اللامحدود، تُشكّل مدخلًا لفهم حالة الاستلاب المعاصر في ظلّ منظومة استعمارية متجدّدة تتجاوز الاحتلال العسكري لتشمل الاحتلال الرمزي والرقمي.

كيف يمكن لهذا العالم، مدّعي التحضّر، أن يُقصي مجموعات بشرية كاملة من فضاء التعاطف الأخلاقي، فتتحوّل إلى مجرّد غبار بشري أو مشكلات أمنية. كما ينطبق تمامًا على الشعوب المُستضعفة في منطقتنا، حيث تُمارس القوى الغربية وأذرعها سياسات التشييء والتجريد من الإنسانية، بحيث يصبح القتل الجماعي، والحصار، والتجويع، وانتهاك كلّ الحرمات الإنسانية، كما يحصل في غزّة مجرّد أدوات سياسية لا تُثير حفيظة المنظومة الدولية بل على العكس تبرّرها وتدعمها.

فعلى مدى عقود تمّ تنميط وإنتاج صورة العربي الشرقي كـآخر لا يستحق السيادة أو الحقوق، بل ككائن قابل للمراقبة، وللإدارة، وللاستغلال، وللانتهاك، وحتى للتدمير. هذه البنية الخطابية لا تزال سائدة، بل أُعيد إنتاجها عبر آليات جديدة أكثر تطوّرًا، وأقلّ كلفةً من حيث الرأي العام من خلال الطائرات المسيّرة، والخوارزميات، والتواطؤ الإعلامي، أحيانًا المحلي قبل العالمي.

منظومة استعمارية متجدّدة تتجاوز الاحتلال العسكري لتشمل الاحتلال الرمزي والرقمي

في المقابل، تفرض المنظومات المعاصرة على الإنسان عمومًا  والشرقي خصوصًا شفافية قسرية لا مثيل لها. حيث تستثمر الحكومات في زراعة آلاف الكاميرات، واستثمار المليارات في أنظمة المراقبة والتجسّس وتلغيم الفضاء العام، بينما لم يعد هذا الفرد يمتلك حتى حقّ الانسحاب، لا من الفضاء العام ولا الفضاء الرقمي، ولا يملك القدرة على التحكّم في صورته ولا في البيانات التي تُجمع عنه. حيث بتنا نعيش في عالم يرى النظام فيه كلّ شيء من دون أن يُرى، وتُحوّل المراقبة إلى وسيلة للضبط والتطبيع من خلال أنظمة المراقبة الإلكترونية المتوحّشة.

أنظمة أوجدت كائنًا جديدًا، تمثّل في الفرد الذي يتم تعقبه، وتصنيفه، ومراقبته على مدار الساعة، ولربما هذا ما أطلقت عليه الفيلسوفة وعالمة النفس، شوشانا زوبوف، لاحقًا اسم "رأسمالية المراقبة"، حيث تُنتَج الأرباح من البيانات الشخصية التي تُجمع من دون وعي أو موافقة، وتُستخدم في ذات الوقت لتغذية أدوات القمع السياسي، خاصةً في الدول ذات الأنظمة التسلطية، وحتى مدعية الديمقراطية الغربية منها.

في هذا السياق، تتهاوى أقنعة العدالة الدولية، كما تآكلت تدريجيًا شرعية المؤسسات الدولية أمام ممارسات انتقائية تسمي الجرائم حربًا عادلة ودفاعًا عن النفس والحرية حين يرتكبها الغرب، وتُصنّف المقاومة ضدّ الاستعمار والاحتلال والدفاع عن الكرامة الإنسانية إرهابًا إن صدرت عن أبناء الجنوب العالمي. يتجلّى هذا السقوط الأخلاقي في التناقض الصارخ بين صمت العالم عن قصف أطفال غزّة وتجويعهم، وبين تبجّح الساسة الغربيين، وعلى رأسهم قادة الولايات المتحدة، بـانتصاراتهم العسكرية المزعومة عند قصفهم لجنازة أو عرس يعجّ بالرجال المدنيين والأطفال والنساء.

تُقصف المستشفيات باسم الأمن، ويُجوّع الأطفال باسم السلام، وتُراقب الشعوب باسم حمايتها

إننا نشهد اليوم استعمارًا بنيويًا معولمًا لا يعتمد على القوّة المفرطة فقط بل على التكنولوجيا والإعلام المُسيّس الذي يُخضع الشعوب ويُشَيّئها، بينما يحاول منح الغرب تفوّقًا معنويًا واحتكاريًا في تعريف "الشرعية" و"العدالة". هذا العالم المقلوب هو ذروة الكوميديا السوداء حيث تُقصف المستشفيات باسم الأمن، ويُجوّع الأطفال باسم السلام، وتُراقب الشعوب باسم حمايتها. لقد جُرّ الناس إلى مسالخهم، لا عبر القوة فقط، بل أيضًا عبر التطبيع مع الذلّ والخضوع، وأدوات الإلهاء الجماعي التي تمنحنا شعورًا زائفًا بالحرية بينما نحن مجرّد منتجات بيانات أو وقود لصراعات الآخرين.

أمام هذا الانفصام، لا يكفي الغضب ولا الرثاء. يجب إعادة إنتاج الفعل السياسي والثقافي والمقاوم، ليس فقط في ساحات النضال التقليدي، بل أيضًا في فضاء الرموز، اللغة، والبيانات. نحن بحاجة إلى مقاومة تُعيد للإنسان مرئيّته وكرامته، وتكسر زجاج الرقابة المفروض عليه. وفي مواجهة هذا الاستعمار الرقمي ومواجهة هذه الازدواجية التي خلقها بين الإقصاء والمراقبة تتطلّب مقاومة وجودية كما قال فرانز فانون "كل جيل عليه، وسط ظروفه الخاصة، أن يكتشف مهمته، إما أن ينجزها أو يخونها." 

وفي زمن تتعاظم فيه بلطجة الغرب وأذرعه في عالم يُقصي شعوب الشرق الأوسط من التعاطف الإنساني، ويحوّلهم إلى أهداف للمراقبة قابلة للإبادة من دون تبرير أو كلفة أخلاقية، تحت مظلّة استعمار جديد يدمج القوّة الغاشمة بالتكنولوجيا لتجريدنا من إنسانيتنا، فإن المخرج يكمن في إعادة تعريف الحرية خارج مفردات الهيمنة، وتفكيك أدوات المراقبة، وامتلاك السردية بشكل يعيد للإنسان إنسانيته، ويكسر تشييئه، ويحرّره من سلطة الرقابة المطلقة والشفافية القسرية.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows