كيف صارت المنصات الرقمية مركز القرار والمعركة؟
Arab
3 hours ago
share

لم تعد الحروب الحديثة تُخاض على الأرض فقط. فمنذ أن أصبحت الصورة لحظة، والمعلومة تتجاوز المسافة، تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي إلى عنصر أصيل في بنية الصراع، لا كمجرّد أداة نقل، بل كمحرّك مباشر للحدث نفسه. المنصّات الرقمية باتت اليوم ساحة موازية للمعركة، تُصاغ فيها الانفعالات، وتُروّج عبرها السرديات، وتُحدّد فيها الاصطفافات. الجمهور لم يعد متفرّجاً على الحرب، بل جزءاً من معركتها الرمزية، يُستهدف ويُحرَّك، ويمنح أحد الطرفين شرعية التأييد أو لعنة السقوط.

تغذية الحروب وتشكيل السردية الرقمية

أحدث الدراسات حول العلاقة بين وسائل التواصل والنزاعات المسلّحة تكشف أنّ هذه المنصّات تمارس دوراً متزايداً في تغذية الحروب. ففي تقرير "Weekly Report: Cyber-Based Influence Campaigns (16–22 June 2025)" الصادر عن مركز Cyfluence للأبحاث، وردت إشارات مباشرة إلى توظيف الذكاء الاصطناعي في حملات التضليل الرقمي، بما في ذلك استخدام مقاطع مزيّفة أو محرّفة تُقدَّم بسياقات قانونية لتشويه صورة الخصم. كذلك تُنتج المنصات روايات بصرية مُختزلة تُعيد تصنيف الضحية والمعتدي بناءً على مدى الانتشار، لا على دقّة الوقائع. هذا التدفق غير المنضبط يمنح الخوارزميات دوراً حاسماً في تحديد من يُرى ومن يُمحى، من يُروى ألمه ومن يُسكت وجعه، ومن خلال التفاعل اللحظي تتبلور موجات غضب أو دعوات إلى الانتقام، تغذّي مزاجاً رقمياً متقلّباً يضغط على صُنّاع القرار.

من ردود الفعل إلى التأثير في القرار

ليست وسائل التواصل اليوم مجرّد مساحات تعبّر فيها الجماهير عن مواقفها، بل تحوّلت إلى أدوات ضغط قد تُعيد توجيه القرار السياسي والعسكري نفسه. فكل صورة تُنشر بعناية، أو مقطع فيديو يُنتزع من سياقه، أو وسم لغوي اختير بدقة، يمكن أن يُنتج رواية جديدة تتحدى الرواية الرسمية، بل تتفوّق عليها أحيانًا من حيث التأثير الجماهيري.

أصبحت الحرب حكاية بصرية مختزلة، تُمليها ديناميكيات المنصّة، لا تعقيدات الميدان

هذا ما توضّحه دراسة حديثة بعنوان "Propaganda and Information Dissemination in the Russo‑Ukrainian War"، صادرة عن جامعة كلية دبلن، التي حلّلت نحو 40 ألف تغريدة من الجانبين، الروسي والغربي. وجد الباحثون أنّ الحسابات الروسية تميل إلى استخدام لغة عاطفية تعبويّة تُثير الغضب أو الخوف، في حين أنّ المحتوى الغربي يركّز غالبًا على البُعد الإنساني والضحايا. هذه الفوارق لا تعكس فقط اختلافًا في الخطاب، بل في آليات التأثير أيضًا، حيث تُشكَّل مواقف الجمهور (وبالتالي توجّهات السياسيين) بناءً على القصص التي تنتشر أكثر، لا بالضرورة الأدق. وهكذا، تصبح الحرب حكاية بصرية مختزلة، تُمليها ديناميكيات المنصّة، لا تعقيدات الميدان.

المنصة تُعلن والمصادر الرسمية تتابع

في هذا الإطار، برز ما فعله الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال تصعيد العدوان على إيران، حيث استخدم منصته، تروث سوشال، لنشر تصريحات مباشرة تتعلّق بالتوتر مع طهران، بينها إعلان تنفيذ ضربات على منشآت نووية وحديثه عن ردود إيرانية ضعيفة. كذلك استخدم المنصّة نفسها لإعلان وقف لإطلاق النار بين إسرائيل وإيران، حتى قبل صدور أيّ مواقف رسمية من الجانبين. كذلك لم تصدر هذه التصريحات من البيت الأبيض من خلال مؤتمر صحافي، بل جاءت بصيغة منشورات شخصية، ما يُظهِر كيف تحوّلت المنصّة الرقمية إلى أداة إعلان للقرارات الاستراتيجية والدبلوماسية. لم تكن تلك المرّة الأولى التي تُطرح فيها مواقف عسكرية حسّاسة عبر منصّات التواصل، لكن حدّة الخطاب وسرعة النشر شكّلا مفارقة واضحة مقارنة بالتقاليد السياسية الأميركية، التي اعتادت إعلان مثل هذه القرارات عبر قنوات مؤسسية منسّقة.

مقاطع مزيّفة أو محرّفة تُقدَّم بسياقات قانونية لتشويه صورة الخصم

إعلان الحرب عبر منشور

تكمن خطورة هذا النمط في أنّ القرار العسكري لا يُتخذ ضمن منشور، بل في مراكز تقدير ومؤسسات مختصّة. لكن عند تقديم الخطوة كأنها إعلان مباشر وفردي، يبدو أنّ المؤسّسات قد جرى تجاوزها إعلاميًا، أو على الأقل غابت عن لحظة الإعلان. فبدل أن تُنسّق القرارات بهدوء خلف الكواليس، تُعرض مباشرة على الجمهور، الذي يتفاعل فورًا، ما يغيّر مسار اتخاذ القرار ووتيرته. القائد يبدو هنا وكأنه يمارس السيادة عبر حسابه، فتُصبح المنصّة امتداداً رقميًا لغرفة العمليات، ويصبح معيار النجاح السياسي هو الزخم الرقمي، لا نتائج التفاوض أو كلفة الحرب.

حين تُشعل السردية شرارة الحرب

في هذا الإيقاع السريع، لم تعد الحروب تبدأ عندما تُطلق القذائف، بل عندما تُنشر الرواية الأولى في الفضاء الرقمي. إذ تتحوّل المنصة إلى نقطة الانطلاق الرمزية للنزاع، حيث تُبنى السردية، وتُنتج الانفعالات، ويُمنح الصراع معناه الأولي. يتداخل ما هو حقيقي بما هو مُصوَّر، وتُخلط المشاعر بالحسابات، وتُعلَن المواقف المصيرية من خلف شاشات مضاءة لا تُطفأ. نحن أمام زمن جديد لا تُخاض فيه الحرب بالسلاح فقط، بل تُروى وتُشرعن وتُدار من داخل المنصّة، حيث يمكن لمنشور واحد أن يُشعل النزاع، أو يُطفئه.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows