
لا تنتهي مشاكل المحكمة الاتحادية العراقية (أعلى محكمة في البلاد وتختص في الفصل في النزاعات الدستورية)، سواء على مستوى القرارات التي تصدرها أو تصدّع أعضائها وخلافاتهم. وللعراقيين قصص طويلة ومعقّدة مع هذه المحكمة، كانت بدايتها عام 2010 عندما أفتت بأحقية نوري المالكي تشكيل الحكومة بدلاً من الفائز بالانتخابات إياد علاوي، ضمن ما بات يُعرف لاحقاً "الكتلة الأكبر بالبرلمان"، لكنها لم تشهد الهزّة الكبيرة كما شهدتها خلال الأسبوعين الماضيين، من ناحية مكوناتها الداخلية، خصوصاً بعد استقالة ستة من أعضاء في المحكمة مع ثلاثة قضاة احتياط. وجاءت الاستقالات من المحكمة الاتحادية العراقية بسبب توجيه الاتهامات لرئيسها جاسم العميري (61 عاماً)، بالتفرد في القرارات وتخطي صلاحيات المحكمة الدستورية والقانونية، ومحاباة قوى سياسية وحزبية مختلفة، حسبما كشفت مصادر عراقية مطلعة.
محمد عنوز: ما يحصل في المحكمة الاتحادية يعد مؤشراً خطيراً على طبيعة النظام السياسي في العراق
أزمة المحكمة الاتحادية العراقية
وسبق الاستقالة الجماعية الكشف عن وثيقة للعميري، يطالب فيها رئيس مجلس النواب العراقي محمود المشهداني، بعقد اجتماع للتدخل بالأزمة بين المحكمة الاتحادية العراقية ومحكمة التمييز العليا، التي رفضت عدة قرارات للأولى واعتبرتها ليست ذات اختصاص للبت بها. هذا الطلب رفضه المشهداني، وأعلن ذلك في بيان رسمي، أن الطلب يتيح التدخل السياسي بعمل القضاء "وهو ما لا ينبغي أن يكون". كما أصدرت رئاسة الجمهورية العراقية وثيقة رسمية ترفض فيها مقترحا مماثلا للعميري بشأن عقد اجتماع للقوى السياسية، معتبرة أن خطوته تمثل خرقاً صريحاً للدستور العراقي، ولا مجال لفتح باب تدخل السياسة في القضاء". واختتمت الوثيقة بالقول "مقترحكم مرفوض".
خلال ذلك ترد أنباء من قوى سياسية وأطراف قضائية عن استقالة العميري، وأخرى تتحدث عن طلبه الإحالة على التقاعد، ورغم عدم وجود حديث رسمي بشأن هذا الأمر، إلا أن مصادر "العربي الجديد"، أوضحت أن "العميري غامر بطلب الاجتماع مع القوى السياسية لمناقشة ملفات قضائية متعلقة بعمل المحكمة الاتحادية العراقية ومجلس القضاء ومحكمة التمييز، بالتالي فإن هذا الإجراء كان منافياً لأبجديات وقوانين عمل هذه المحكمة". وبيّنت أن "العميري يُنظر إليه على أنه أخطأ في تفسيرات وقوانين وفتاوى صدرت عن المحكمة، بدوافع سياسية، وهو حالياً في أزمة حقيقية ستدفعه في النهاية إلى ترك منصبه، سواء بالاستقالة أو الدفع نحو طلب الإحالة على التقاعد، وما نُشر من معلومات في وسائل التواصل وبعض مواقع الأخبار بشأن استقالته فهي صحيحة حتى وإن لم يُعلن عنها بصيغة رسمية". ويتحدث مسؤولون ونواب عن احتمالات أن تفضي أزمة المحكمة الاتحادية العراقية إلى فراغ دستوري غير مسبوق، قد يؤدي إلى تعطيل مساحة مهمة في المؤسسة القضائية العراقية، لا سيما فيما يتعلق بحسم النزاعات وتفسير القوانين.
في السياق، قال عضو اللجنة القانونية في البرلمان العراقي محمد عنوز، لـ"العربي الجديد" إن "ما يحصل في المحكمة الاتحادية يعد مؤشراً خطيراً على طبيعة النظام السياسي في العراق، الذي يعاني بالأصل من أزمة بنيوية حقيقية، فإلى جانب الخلافات والاضطرابات فإن هذه التطورات الخطيرة في الجسم القضائي تُعد تطوراً خطيراً، خصوصاً مع اقتراب موعد الانتخابات (في 11 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل)، لأن المحكمة الاتحادية هي الجهة المخولة بالمصادقة على نتائجها". وبرأيه فإن "عدم استقرار المحكمة الاتحادية قد يهدد موعد الانتخابات المقبلة وشرعيتها". وبحسب قانون المحكمة الاتحادية رقم 30 لسنة 2005، فإنه لم ينظّم طريقة استقالة القضاة أو رئيسهم، واكتفى بتحديد تشكيلة المحكمة وآلية الإحالة إلى التقاعد عند بلوغ السن القانونية البالغة 72 سنة، وينص القانون على أن عدد الأعضاء الاحتياط في المحكمة وفق المادة الثالثة من قانونها لا يتجاوز أربعة قضاة، وهو عدد أقل من القضاة الذين قدموا استقالاتهم، الأمر الذي يصعّب إحلال بدلاء عنهم بشكل فوري. كما أن غياب المحكمة الاتحادية عن أداء دورها سيخلف آثاراً كبيرة تتعلق بعدم المصادقة على نتائج الانتخابات وعدم النظر في الطعون أو التشريعات التي قد تصدر مخالفة للدستور، مما يضع البلاد أمام فراغ دستوري معقد".
ولم يستبعد رئيس مركز الرشيد للتنمية، محي الأنصاري "استخدام هذه الأزمة ذريعة لإرجاء موعد الانتخابات أو تغييره، سواء من باب ضرورة توفير بيئة قانونية مستقرة أو عبر الدفع لتعديلات دستورية وقانونية مؤقتة تستلزم وقتاً أطول، ففي حال تعثرت مفاوضات تسمية بدلاء عن القضاة المستقيلين، أو ظهر نزاع سياسي حول آلية تعيينهم، فإن المسار الانتخابي سيتعطل حتماً. وربما يُربط بشكل كامل بمخرجات التسوية القضائية لهذا الفراغ الذي اعتقد بأنه لن يطول أكثر من شهر واحد، إذا ما تم الحفاظ على استقلالية السلطة القضائية وحُيّدت التدخلات السياسية تماماً والتي كانت مرهقة للجسد القضائي لسنوات طويلة". وأضاف الأنصاري في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "المحكمة لم تكتف بتفسير الدستور، بل أصبحت تُنتج السياسة، وراحت تؤسس شرعيات بديلة لما يخرج عن صناديق الاقتراع، عبر اجتهاداتها، وهذا الانزلاق نحو السياسة التفسيرية جعل المحكمة جزءًا من لعبة مراكز القوى، تتعامل بنديّة مع البرلمان والحكومة، وأحياناً تسوّق قراراتها كحقائق فوق دستورية، من دون أن تكون هناك محاسبة أو مساءلة". ولفت الأنصاري إلى أن "المحكمة تحوّلت إلى فاعل بالمشهد السياسي، يتجاوب مع ضغط داخلي أو خارجي، ما أفقدها مكانتها كحكم محايد، ودفع القضاة المهنيين بداخلها إلى الشعور بالعجز أو التهميش، وصولًا إلى الاستقالة".
محي الأنصاري: المحكمة لم تكتف بتفسير الدستور، بل أصبحت تُنتج السياسة
ذكريات عراقية
وللعراقيين ذكريات كثيرة مع قرارات المحكمة الاتحادية، ضمنها قرار إقالة رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي، وإيقاف العمل بقانون العفو العام بطريقة غير قانونية، وانتزاع حق تشكيل الحكومة من الكتلة الفائزة في انتخابات البرلمان عام 2010، آنذاك "ائتلاف العراقية" بزعامة إياد علاوي، ومُنِح المالكي فرصة للبقاء ولاية ثانية. كذلك حكمت بإعادة فرز الأصوات يدوياً في انتخابات 2018 بناءً على طلب زعماء أحزاب، وأبرزهم المالكي، وكذلك قضت بعدم دستورية قانون النفط والغاز لحكومة إقليم كردستان العراق وإلغائه، ثم الحكم بمنع تمويل رواتب موظفي الإقليم، وأخيراً الطعن باتفاقية خور عبد الله مع الكويت، التي تنص على ترسيم الحدود المائية بين العراق والكويت.
وأنشئت المحكمة الاتحادية العراقية في عام 2005، ومقرها في بغداد، وتتألف من رئيس وثمانية أعضاء، وتختص بالفصل في النزاعات الدستورية. وتعتبر قراراتها باتّة وملزمة للسلطات كافة. ويفترض أنها مستقلة وفق الدستور العراقي، إلا أن الأحزاب النافذة تناوبت على طرح أسماء قضاة يمثلونها، حيث لا يوجد قانون يمنع عنها التأثيرات السياسية، ما دفع سياسيين بين فترة وأخرى إلى المطالبة بتشريع قانونها الخاص. وتتلخص مهام المحكمة الاتحادية بـ"الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة، وتفسير نصوص الدستور، والفصل في القضايا التي تنشأ عن تطبيق القوانين الاتحادية، والقرارات والأنظمة والتعليمات والإجراءات الصادرة عن السلطة الاتحادية، والفصل في المنازعات القضائية والإدارية التي تحصل بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات والبلديات والإدارات المحلية، والفصل في الاتهامات الموجهة إلى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء، والتصديق على النتائج النهائية للانتخابات العامة لعضوية مجلس النواب".

Related News
