
"المعرفة قوة"، ولا شيء أفضل من الحرب، "أم الأشياء كلها" كما يصفها الفيلسوف اليوناني هيراقليتوس، سبراً لأغوار العدو وفهماً لتكتيكاته وتقييماً لقدراته في مقابل مصارحة أنفسنا بحقيقة إمكانياتنا ودرجة استعداداتنا ومبلغ كفاءاتنا، ولهذا تبرز الأهمية البالغة في رصد الدروس المباشرة وغير المباشرة التي تقدمها لنا حرب الاثني عشر يوماً بين إسرائيل وإيران.
أولاها توجزه مقولة "الحرب خدعة" وهي وإن بدت بديهية لكنها تحمل في طياتها عمقاً استراتيجياً، يجعل من هذا التكتيك صالحاً ومتكرراً في كل زمان ومكان، ويعمل مع صاحبه بفعالية خبرنا نجاحها ضدنا في حرب يونيو 1967، وتعلمنا منها فكانت أن عملت معنا في حرب أكتوبر 1973 بين مصر وسورية ضد إسرائيل، وهي وإن تنبهت للخلل بعد تشكيل لجنة "أجرانات" للتحقيق في ما جرى وقتها وخرجت نتائجها المعلنة وتوصياتها الملقنة للجيش والمؤسسة العسكرية بالحذر حتى لا يتكرر ما وقع، لم يحل هذا بينها وتكرار السيناريو عقب خمسين عاماً في الشهر ذاته فكان العبور الفلسطيني الناجح (طوفان الأقصى) باتجاه الأراضي المحتلة في 2023.
استراتيجياً برزت في هذه المعركة أهمية تكتيك الهجمات الاستباقية الفعالة ضمن مدى زمني أقل، سيما وأن تناغماً أميركياً إسرائيلياً تبدى في جولاتها، فقبل أن تبدأ بيومين، برز دونالد ترامب في ثياب الوسيط قائلاً إنه حث بنيامين نتنياهو على ضبط النفس وعدم شن هجوم على إيران وانتظار نتائج المباحثات الدبلوماسية في مسقط، ليتضح أن الرجلين نصبا "كميناً كلامياً" وقعت فيه طهران وفقدت زمام المبادرة لصالح المبادأة الإسرائيلية، فكانت الضربة الأولى محملة برسائل الصدمة والرعب المستهدفة لمنظومة القيادة والسيطرة لتنجح جزئياً في خلخلتها والتقليل من فعاليتها.
يؤكد هذا أهمية التحالفات الإقليمية والدولية المتينة والصلبة، فقد تكرر الأمر للمرة الثانية دونما مساعدة أحد لطهران، فبعدما أمهلها ترامب أسبوعين انطلقت قاذفاته عقب يومين فقط لتدمر المواقع النووية الرئيسية، وربما هذه المرة لم يكن الأمر مباغتاً بقدر ما كان مربكاً، وبالتأكيد في طهران هناك من رأى مؤشرات ضربة قادمة، لكن ما باليد حيلة، وسمواتها مفتوحة وأجواؤها مكشوفة أمام الطيران المعادي، وكلها أوراق قوة لا غنى عنها لموازنة المعركة مع إسرائيل التي لا يدعمها الغرب فقط وإنما يحارب معها بكل ما يمكنه، في حين أن علاقة طهران بموسكو وبكين لا ترقى إلى تلك المنزلة.
ويبدو أن الصينيين والروس اكتفوا بوضع فيتو على قتل المرشد الأعلى علي خامنئي فقط، بمعنى تطوير الهجوم باتجاه إسقاط النظام عملياً حتى لا يجدوا الأميركي من ورائهما والأوروبي أمامهما، ولا يعنيهما كثيراً البرنامج النووي، بالعكس طهران بدونه أفضل لهما، أكثر خضوعاً أو اعتمادية لقلة خياراتها وحجم أعدائها.
عسكرياً، يؤكد ما سبق أنه لا أمل أمام طهران كما بقية دولنا العربية والإسلامية في حماية أرضها وشعبها بدون امتلاك تقنية تصنيع الطائرات ومنظومات الدفاع الجوي، والتعاون الفعال فيما بينها بدلاً من التآمر على بعضها، وصولاً إلى ابتكار ونقل التكنولوجيا وتكرار المحاولة تلو الأخرى للنهوض والإفلات من الهيمنة العسكرية الغربية التي نراها واقفة بكل صلف وراء إسرائيل، عديداً وعتاداً فرنسياً وبريطانياً وألمانياً، كما بقية دول المنظومة باستثناء من هم على الهامش، بينما الأقوى والأكثر تأثيراً يشاركون بفعالية في انتهاك ميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي، خاصة إذا ما تعلق الأمر ببلداننا ولا حاجة لتكرار الأدلة على ازدواجية المعايير واحتقار المبادئ المؤسسة على أياديهم.
ينقلنا هذا إلى الدروس غير المباشرة، وأخطرها ما يقوله هذا العدد الهائل من الجواسيس الإسرائيليين، ففي كل يوم من الحرب أعلنت طهران عن اعتقال العشرات حتى بلغوا 700 متهم في 12 يوماً ولا تشمل تلك الإحصاءات الرعايا الأجانب، فأين كانت الأجهزة الأمنية الإيرانية هائلة الحجم والميزانية، لماذا فشلت في مواجهة الموساد إلى هذه الدرجة؟ وقد وصلتها العديد من التحذيرات عبر عمليات عديدة تمت على أراضيها ومن أخطرها استشهاد ضيفها وقائد المقاومة الفلسطينية إسماعيل هنية بانفجار في غرفة نومه وفي مبنى تابع للحرس الثوري بعد ساعات من مشاركته في حفل تنصيب الرئيس مسعود بزشكيان.
لكن وإن وقعت الواقعة، ألم يتعلموا شيئاً مما تكشف من تغلغل إسرائيلي داخل الصف الأول لحزب الله، أقوى حلفائهم في المنطقة، وليس أدل على حجم الاختراق من ذلك، ويمكن أن نعزوه لضعف مناعة المجتمع جراء التردي الاقتصادي والتفكك الاجتماعي وفقدان الثقة في المؤسسات الحكومية، بل وفي الدولة، بسبب الانقسامات بين فئات المجتمع والسخط العام وفشل النظام في استيعاب مكوناته المتنوعة، وتحديداً الشباب الذين يبحثون عن أي مهرب ولو كان فيه هلاكهم، أملاً في حياة بدول الرفاه والنهضة والحريات المفقودة في بلادهم.
أي أن وصفة الطائفية والتطرف والاستبداد هي عدونا الأول، لكونها تفتح ثغرات عديدة في جسد الوطن وتدمر مناعته وتسهل مهمة العدو في سرطنته ومحاولة القضاء عليه، والنفاذ إلى أعمق نقاطه، وإلا فمن أين عرفت إسرائيل غرف نوم كل هؤلاء القادة والعلماء النوويين الإيرانيين المستهدفين في الضربة الأولى وعلى مدار الأيام التالية؟ في مقابل ما يمكن وصفه بـ"العمى الإيراني" وعدم الوصول إلى هدف ثمين واحد. ومع ذلك لا بد من القول إن ما يجري منذ 2023 وحتى اليوم يؤكد أن دولة الاحتلال لم تعد قادرة على الحرب بمفردها ونزفت وداعموها من شرعيتهم وهيبتهم، وإن كان من شيء أكيد فهو أن نموذجهم قد بلغ ذروته وفقد زخمه ويبقى في انتظار من يأكل منسأته.

Related News


