
بروحٍ مفعمة بالمسؤولية، تبدو إشراق الجعشني، سعيدة بدورها كعاقلة أحد أحياء مدينة تعز؛ فمنذ بداية سنوات الحرب برزت كوسيطة مجتمعية وشخصية استثنائية عكست صلابة المرأة اليمنية في مواجهة التحديات، وقدرتها اللافتة على مشاركة الرجل في المناصب القيادية لتغدو اليوم مرجعًا لحل الخلافات، وملاذًا للفقراء، وركيزة أساسية في تسيير حياة الناس اليومية.
دور ملهم
لم تكن إشراق مرشحة بسهولة لتصبح عاقلة حارة، فالمجتمع الذي نشأت فيه يرى هذا الدور حكرًا على الرجال، لما يرتبط به من نفوذ قبلي، وخبرة عمرية، وقدرة على الحسم؛ لكن الحرب قلبت المعادلات، ودفعت الواقع الشعبي ليفرضها كخيار وحيد وضروري لخدمة الناس، بعد أن أثبتت حضورها وكفاءتها في زمن الانهيار.
منذ اندلاع الحرب في تعز عام 2015، ومع تصاعد النزوح وتفاقم المعاناة، بدأت إشراق تتحرك في أزقة حي الجهوري بدافع من ضميرها بحثًا عن وسيلة لإنقاذ سكان الحي من أزمات متراكمة، على رأسها شُحّ المياه وانقطاع الأدوية. هذا التحرك العفوي قادها إلى التواصل مع منظمات إغاثية وجهات داعمة، وساهم لاحقًا في تسجيل العشرات من الأسر ضمن قوائم المساعدات.
تقول إشراق لـ منصتي 30: “أقوم بكل مهام عاقل الحارة، والناس هنا ينادونني يا عاقل لأنني أتابع قضاياهم وأوفّر لهم الخدمات الضرورية، وأؤدي أيضًا دور الوسيطة في حل النزاعات، وهذا جزء من واجبي تجاههم”.
وتضيف: “عزيمتي نابعة من المعاناة، نحن نعيش في حي منسي من كل شيء، ولهذا قررت أن أكون صوتًا وسندًا لأهلي. في حي شعب سلمان بمنطقة الجهوري، أعمل كعاقلة، وهذا أمر نادر في محافظة تعز وبين أبناء المجتمع اليمني عمومًا”.
وتتابع: “سكان الحي ذهبوا بأنفسهم إلى عاقل العقال وقالوا له: نريد إشراق عاقل علينا، ومن يومها يشجعونني ويقفون بجانبي”.
وتشير في حديثها إلى أنه في ذروة القصف والقنص، كانت تتنقّل بين الجهات الإغاثية والمنظمات حاملةً همّ حيّها الذي لم يكن ضمن خرائط التدخل الإنساني، بهدف إيصال صوت السكان وشرح معاناتهم المتفاقمة، في ظل احتياجات أساسية لم تكن متوفرة.. لقد أدّت دور الوسيط والمناصر في وقتٍ كان فيه الوصول إلى الحي نفسه يُعدّ مخاطرة.
تأييد واسع
بصوت هادئ ونبرة حازمة، تتقدّم العاقلة إشراق وسط الزحام اليومي، تمسك بخيوط منطقتها الهشّة، وتستثمر علاقاتها لتعيد نسجها بإيمان راسخ بأنها قادرة على صنع الفارق، ومن خلال دورها الإنساني، أعادت تعريف المسؤولية في حيّها، ليس بالكلام بل بحجم الجهد والإنجاز، وعلى مدى سنوات عدة كرّست نشاطها بكل مثابرة، وخلقت أثرًا إيجابيًا جعلها تقف بثبات في موقع طالما اعتاد الرجال فقط الوقوف فيه.
حظيت إشراق بدعم واسع من سكان الحي والمناطق المجاورة، الذين رأوا فيها نموذجًا نادرًا للمرأة المسؤولة والمتفانية في خدمة مجتمعها، ولم يقتصر هذا الدعم على الإشادة الكلامية، بل تُرجم إلى مساندة فعلية في المواقف التي تطلبت حسمًا أو وساطة أو تدخلًا لصالح الناس.
وحسب إشراق، فإن التأييد الشعبي الذي وصلت له كبير، وهو ما تؤكده شهادات سكان الحي من مختلف الفئات؛ رجالًا ونساء، شبابًا وشيوخًا، ممن يعتبرونها لسان حالهم في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة والحصار الخانق الذي تعيشه المدينة.
ومع مرور الوقت، تجاوز حضورها حدود الحي، إذ تتفق حارات “وادي القاضي” و “المسبح” وغيرها، على أن إشراق لم تعد مجرد عاقلة، بل أصبحت شخصية عامة تحظى باحترام العقال والمشايخ والسكان على حد سواء، ونموذجًا يُحتذى به في القيادة المجتمعية.
تشجيع الأهل
لم يكن طريق إشراق مفروشًا بالزهور؛ فمنذ أن اتخذت قرارًا جريئًا بتولي دور عاقلة الحارة، واجهت الكثير من التحديات والصعوبات، كان أبرزها العنف اللفظي ومحاولات الاعتداء الجسدي من بعض الرجال الذين رأوا في تحركها “تمردًا” على التقاليد يستوجب القمع.
تلقت تهديدات مباشرة، ومرت بمواقف ترهيب صعبة؛ ففي إحدى المرات، اقتحم أحدهم منزلها وهو يحمل سلاحًا، ملوّحًا بالتهديد، في محاولة لترويعها وثنيها عن مواصلة دورها المجتمعي؛ لكنها لم تنكسر. تقول إشراق: “واجهت العنف بالهدوء، والهدم بالبناء.. قلت لهم إن المرأة التي تدير بيتًا قادرة على إدارة حي”.
وبين الخوف والإصرار، مرت هذه المرأة بلحظات إحباط وندم، خاصة حين شعرت أن الضغوط تفوق طاقتها، ورغم ذلك تماسكت بفعل دعم زوجها وتشجيع إخوتها، ودعوات والدتها التي منحتها يقينًا بأهمية ما تفعل، كما استمدت من الأهالي صلابتها وإيمانها بأن الدور الذي تؤديه بات أكبر من مجرد مهمة مجتمعية.
بعدها تغيّر المشهد تدريجيًا؛ فالذي استنكر دورها بالأمس وحاول ثنيها صار يرى فيها صمام أمان، وملجأ لحل النزاعات البينية، وقد نجحت إشراق في بناء جسور الثقة داخل بيئة هشّمتها الحرب، وأعادت إلى حيّها شيئًا من التماسك الذي بعثرته الحرب.
أثر مجتمعي
قبل أن تتصدر إشراق مشهد العمل المجتمعي، كانت المنطقة أشبه ببقعة منسية، فالمياه نادرة، وأسطوانات الغاز تُباع بالسوق السوداء، والإغاثة لا تعرف عنوانًا لهذا المكان؛ لكن اليوم، وبفضل تفانيها، تغيّر وجه الحي نسبيًا؛ وصلت مياه السبيل، وتوفرت اسطوانات الغاز، وسُجّل المحتاجون في كشوفات الإغاثة، ولم تعد العائلات تشعر أنها تعيش على هامش الحياة، بل استعاد الحي جزءًا من كرامته.
وتوضح شهادات السكان أثر جهود إشراق على المجتمع المحلي، ففي حديث لـ “منصتي 30” يقول نائف حسن، أحد سكان الحي: “لقد بدّلت حال الحي من النسيان إلى الحياة.. نحن راهنا عليها وهي تبذل كل ما بوسعها لتوفير الخدمات.. لم تطلب مقابلًا، وقدّمت ما عجز عنه كثير من الرجال”.
هذا الإجماع النادر يعكس حجم التقدير الشعبي لشخصية لم تفرض حضورها بالقوة أو المنصب، بل بالخدمة الصادقة والمثابرة اليومية.. تؤكد أم عبدالله: “إشراق بالنسبة لنا سلطة وعدالة وحنان في آنٍ واحد.. لا تفرّق بين غني وفقير، وتعيش هموم الناس وتواصل دورها بلا كلل”. شهادة تُلخّص مكانة هذه المرأة التي تجاوزت دور “عاقلة الحارة” لتصبح رمزًا مجتمعيًا نادرًا.
لم تقتصر جهود إشراق على المهام التقليدية، بل تجاوزتها لتغدو رمزًا للثقة ومرجعًا لحل النزاعات الأسرية، بفضل مكانتها الرفيعة لدى سكان الحي واطمئنانهم الدائم لحضورها، ففي كل مرة تتعقّد فيها الخلافات، يلجأ الأهالي إليها باعتبارها الملاذ الأخير حين تغيب الحلول وتتداخل الأصوات.
ورغم متاعب المهنة وضغوطها النفسية، والمواقف القاسية التي مرّت بها، لا تزال إشراق مصمّمة على الاستمرار، إيمانًا منها بأن التعب الجسدي والإرهاق النفسي لم يكونا يومًا عائقًا، بل دافعًا إضافيًا لخدمة أبناء الحي الذين منحوها ثقتهم باعتبارها صوتهم الصادق، قبل أن يأتمنوها على مشاكلهم وهمومهم.
The post «إشراق الجعشني».. وسيطة مجتمعية تصبح «عاقلة حارة» في تعز! appeared first on منصتي 30.
Related News
