غابت البديهيات في الحرب رغم شفافيّتها
Arab
1 day ago
share

يتمدّد الدخان الأسود وضجيج الصواريخ يتوسّع، وربما بعد حين أيضاً سيكون الجو مشبعاً بإشعاعات نووية قاتلة. وهذا ما يحجب عنا بديهيات.

البرنامج النووي الإيراني موضع الحرب مع إسرائيل وأميركا: بالأصل، كل ترسانته الفكرية قائمة على تحرير فلسطين. كل دعاياته وطقوسه وجماعاته المسلحة. فلسطين حمت هذا البرنامج وجعلته ينمو على ضفاف القدس الموعودة. بمعنى آخر: لو كان الفلسطينيون على سوية بحقوقهم الوطنية، لما كان هناك برنامج نووي إيراني. أو أنه كان له وجود، ولكنه "مدعوم" بـ"قضية" عادلة أخرى: ربما كشمير المسلمة التي تطالب بانفصالها عن الهند...

القضية الأصلية، فلسطين، غابت في الحرب الإيرانية - الإسرائيلية. تجدها في اللامكان. الفلسطينيون، أهلها، بعدما كانوا مطية ثمينة، صاروا الآن أمواتاً بلا أسماء ولا طحين ولا أكفان. إسرائيل شنّت حرباً على إيران حول طموحين لا يمتّان بصلة إلى فلسطين: إسقاط مشروعها النووي، وإسقاط نظامها الحاكم. نسيت إسرائيل محتجزيها لدى "حماس"، وإيران نسيت ذريعتها الفلسطينية.

السلاح النووي. السرّ القديم والأكثر رواجاً يقول إن لدى إسرائيل موقع تطوير سلاح نووي بالقرب من مدينة ديمونة في صحراء النجف. بنَته عام 1958 بمساعدة الفرنسيين. تحتفظ إسرائيل، على عكس إيران، بالسرّية والصمت حوله، باسم "الالتباس استراتيجي". تؤكّد كل المعلومات التي ترشح عن هذا الموقع أن سلاحه يسير نحو التطوّر بخطى حثيثة. وفوق ذلك، إسرائيل من الدول التي نالت النووي من دون أن يكون لوكالة الطاقة الذرية أي دخل بها. هذه الدول "العاصية" على إرادة المحتكرين الخمسة للنووي: الهند، باكستان، كوريا الشمالية. أما دول المحتكرين الخمسة فهم: الولايات المتحدة، الصين، روسيا، فرنسا، إنكلترا. فتكون المعادلة الهزيلة كالآتي: إسرائيل التي تمتلك سلاحاً نووياً، غصباً عن محتكريها وبمساعدتهم، تشن حرباً على إيران الساعية لامتلاكه وفق قوانين وضعها أولئك المحتكرون، ومن دون مساعدتهم.

ثمّة رجلان في العالم، نتنياهو وترامب، يسيران بخطى حثيثة نحو الاستبداد، يودّان إسقاط نظام يأخذان عليه استبداديته

بعد إسقاط النووي، يأتي دور إسقاط النظام "الظلامي، الديني، الاستبدادي...". نتنياهو وترامب على الدرجة نفسها تقريباً من تكرار هذه الرغبة. ... من يريد إسقاط نظامٍ كهذا؟ نتنياهو؟ قائد دولة دينية، صاحب مشروع "إصلاح القضاء" القائل بحصر كل السلطة بين يديه، رئيس مجلس وزراء مكوَّن من المتدينين القتلة الذين يبتزّونه بفرط عقدها إذا توقف عن الحرب، المتهرّب من جلسات أسبوعية لمحاكمته بتهم فساد، الذي يكاد يفقد الثقة بالكنيست لأنه أسقط مشروع إدخال طلاب الدين من الخدمة العسكرية، أي إنه أبقى "علمانيي" إسرائيل في خدمة متديّنيها...؟

أما ترامب، عاشق الديكتاتوريين، فأفلح بسرعة البرق في تحويل السكّة الأميركية نحو الفاشية والعنصرية والذكورية والطبقية والألوهية. الذي لم يبقِ من مؤسّسات الدولة غير التي تخدمه مباشرة باسم "الوفاء" الشخصي له. الذي ضرب الدستور والقوانين واعتقل قضاة ونواباً وفتح السجون حتى خارج بلاده، وأفلت المقنّعين في الشوارع لكي يوقفوا من أرادوا من دون حساب... والذي باتَ الشعب الأميركي يتظاهر ضدّه تحت شعار "لا مكان لملك بيننا!".

بمعنى آخر، ثمّة رجلان في العالم، نتنياهو وترامب، يسيران بخطى حثيثة نحو الاستبداد، يودّان إسقاط نظام يأخذان عليه استبداديته. ... أميركا وحليفتها أوروبا اللتان كانتا تدافعان عن إسرائيل بصفتها "الجزيرة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط". والعالم كله ابتلع هذا الطعم. الذي لم يكن كله صنّارة. كانت أميركا وإسرائيل تتمتّعان بديمقراطيتهما، وتستخدمانها أداة ضغط ضد الدول التي لا تلبي مصالحهما. أما الآن، فقد فات قطار الديمقراطية هذه البلدان، وها هي تتجه نحو الاستبداد، بخطىً متفاوتة ولكن حثيثة.

 لو انتصرت إسرائيل على إيران، لتقرر مصيرنا بحديد التطبيع القسري، وما يمليه من هدر للكرامات والمصائر

قد يكون هذا سبباً، ومن بين أسباب أخرى جعلت أصواتاً كثيرة معارِضة للنظام الايراني أن تلتحق به وتدافع عنه بوجه العدوان الإسرائيلي الأميركي عليه، وباسم القومية الفارسية، فالأميركي كان متدخّلاً في هذه الحرب، قبل أن يطلق ترامب قنابله على نطانز وكوردو وأصفهان.

وفلسطين ليست وحدها المحجوبة عن هذا المشهد الواقعي. العرب أيضاً معها، شعوباً وحكومات. لا دور ولا معنى ولا صوت... معضلتهم كبيرة. خصوصاً أهل المشرق. إسرائيل تحتل كل هذه الأراضي... غزّة والضفة الغربية والقدس الشرقية والجولان وجنوب لبنان وجنوب سورية وجبل الشيخ. إسرائيل هذه لو انتصرت على إيران، لتقرر مصيرنا بحديد التطبيع القسري، وما يمليه من هدر للكرامات والمصائر.

ومع إيران، بتمزيقها نسيج المشرق الهشّ أصلاً، وإيجادها كياناتٍ مذهبية، بتسليحها المليشيات وإخراجها من دائرة الدولة، بافتعالها حروباً تخدمها، بانغماس هذه المليشيات في تدمير هذه الأوطان، بانخراطها بمعركة بشّار الأسد ضد شعبه... إلخ، إيران هذه لو انتصرت، لوسّعت دائرة خرقها لنا، لأشركت نفسها في ما تبقّى بين أيدينا من قرارات، من دون أن تزيل متراً واحداً من الاحتلال الإسرائيلي أراضينا. ... ومع ذلك، ثمّة أولويات في حالٍ كهذا. ثمّة جغرافيا وتاريخ وذاكرة. وكلها تصب الآن، في هذه اللحظة، مع إيران، ضد إسرائيل.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows