
في الوقت الذي تتواصل فيه الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تنكشف أوجه جديدة لهذه الحرب تتجاوز القصف والتدمير، لتأخذ طابعاً اقتصادياً لا يقل فتكاً، حيث يعاني الغزيون من أزمة سيولة خانقة تهدد معيشتهم اليومية وسط غياب تام لسلطة النقد الفلسطينية التي تقوم مقام البنك المركزي، وتنامٍ غير مسبوق للسوق السوداء.
ومنذ الأسابيع الأولى للحرب، التزمت سلطة النقد والبنوك العاملة في القطاع صمتاً مطبقاً تجاه أزمة السيولة، ما ترك المجال مفتوحاً أمام بضعة من التجار للهيمنة على السوق، والتحكم في حركة الأموال بطرق ملتوية، الأمر الذي دفع الغزيين إلى الاستسلام لحالة من "الابتزاز الاقتصادي"، مقابل الحصول على أموالهم.
ويبدو أن هناك خطة إسرائيلية مبيتة تستهدف تجفيف النقد في غزة تدريجياً، خصوصاً بعد فشل محاولات سابقة لإلغاء ورقة الـ200 شيكل، حيث تحدث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر صراحة عن مخططاته لضرب النظام النقدي في غزة.
ووفق مصادر مطلعة تحدثت لـ"العربي الجديد"، لجأت إسرائيل إلى أسلوب بديل يتمثل بسحب العملة تدريجياً من الأسواق عبر وكلاء اقتصاديين من التجار المحليين، دون إثارة أي ضجة سياسية، بجانب رفض التجار التعامل بفئات نقدية وورقية من الشيكل دون مبرر في طريقة أخرى لتجفيف السيولة من الأسواق.
وتعود جذور الأزمة الحالية إلى نوفمبر/تشرين الثاني 2023، حين بدأت الخدمات المصرفية بالتوقف التدريجي، انطلاقاً من شمال القطاع ثم جنوبه، مع تدمير عدد من البنوك مباشرةً، ومع مرور الوقت توقفت معظم المؤسسات المصرفية عن العمل، ما جعل السيولة النقدية تتلاشى من الأسواق بشكل شبه كامل.
ويدفع الفلسطينيون هذه الأيام ما بين 43-48% مقابل سحب أموالهم من البنوك، من خلال صرافين وتجار عملة وسماسرة لشركات كبرى، في ما بات يعرف بظاهرة "التكييش"، وذلك بالتزامن مع أزمة غلاء أسعار فاحشة جعلت الحياة في غزة شبه مستحيلة وقاسية. فيما قال الخبير الاقتصادي محمد بربخ، إن ما يجري في غزة ليس مجرد أزمة سيولة، بل هو جزء من حرب اقتصادية ممنهجة تشنها إسرائيل بالتوازي مع الحرب العسكرية، بما يهدف إلى تذويب المواطنين وإنهاكهم واستنزاف مدخراتهم، وهو ما نجحت به خلال شهور الحرب.
وقال بربخ في حديث لـ"العربي الجديد": "الحرب الاقتصادية واضحة في شحّ السلع وارتفاع الأسعار وضرب النقد في الأسواق من خلال منعه وسحبه دون إدخال بديل، في خرق صريح لاتفاقية بروتوكول باريس التي تنص على ضمان تدفق النقد للأسواق الفلسطينية".
وأوضح أن الاحتلال يسعى من خلال هذه السياسات لرفع معدلات التضخم داخل غزة بشكل غير مسبوق، "فحين تصل عمولة التكييش إلى أكثر من 40%، فإن ذلك يعني تضخماً إضافياً إلى الارتفاع الجنوني في الأسعار"، مشدداً على أن ما يحدث يشكل تشوهاً اقتصادياً يهدد الاستقرار المجتمعي والمالي في القطاع.
ولفت إلى أن معالجة الأزمة تبدأ باستعادة دور سلطة النقد الفلسطينية وإعادة تفعيل عمل البنوك، ولو جزئياً، بما يسمح بإعادة ضخ الأموال داخل السوق، إضافة إلى التنسيق مع الجهات الدولية للضغط على الاحتلال من أجل التزام الاتفاقيات المالية وضمان تدفق النقد والسلع بشكل منتظم.
بدوره، قال المختص في الشأن الاقتصادي، نسيم أبو جامع، إن تفاقم أزمة السيولة ناتج من استمرار تعطل القطاع المصرفي وغياب أي تدخل رسمي يضع حداً لهذه الكارثة، مشيراً إلى أن السوق السوداء باتت تسيطر بالكامل على حركة المال وتفرض أسعاراً مجحفة مقابل توفير السيولة.
وأوضح أبو جامع في حديث لـ"العربي الجديد" أن العمولة التي يتقاضاها وسطاء "التكييش" ترتبط مباشرةً بمدى فتح المعابر التجارية، حيث تنخفض نسبياً في الفترات التي يسمح فيها بإدخال البضائع التجارية، بسبب حاجة التجار لتحويل الأموال لسداد فواتيرهم البنكية، لكنها تعود للارتفاع بمجرد إغلاق المعابر كما يحدث حالياً.
وأضاف: "طالما لم تعمل الجهات الرسمية على حل المشكلة من جذورها بإدخال النقد للأسواق، ستزيد العملة المهترئة التي ستصبح بمثابة شيكل خامل يرفض التجار والباعة التعامل به، ما سيؤدي إلى تحييد أكبر من السيولة بالأسواق وارتفاع تدريجي على نسبة الحصول على النقد".
وشدّد على أن الحل يكمن في ضخ السيولة النقدية للأسواق، وإعادة تشغيل البنوك تدريجياً، بما يضمن استعادة النشاط الكامل للقطاع المصرفي الرسمي. كذلك دعا إلى وقف استغلال التجار الذين باتوا يهيمنون على السوق ويتحكمون بحركة الأموال، حتى تحوّلت النقود إلى سلعة تباع وتشترى بأقل من قيمتها الحقيقية.
