
تحتضن لاهاي الهولندية قمة دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) الـ32 يومي الثلاثاء والأربعاء، وسط تباين في المواقف في تحقيق صرف نسبة خمسة في المائة من الناتج الإجمالي المحلي على القضايا الدفاعية والأمن حتى عام 2035، إذ يسود اختلاف حول قناعة الأوروبيين أنفسهم بشأن سباق التسلح المتزايد، ويختلف بعضهم مع واشنطن في هذا الشأن، إضافة إلى اختلافهم في تحديد العدو المحتمل مواجهته بهذا التسلح.
فمن ناحيتها تبدو اقتصادات دول الأطلسي في جنوب القارة مثل (إسبانيا والبرتغال وإيطاليا واليونان) وغيرها، في وضع لا يمكنها تلبية تخصيص الـ5% خلال الأعوام القادمة. وإلى جانب المسائل المالية، فإن معارضة حزبية وشعبية تتزايد بشأن صرف مئات المليارات على التسلح. وتبين أرقام الحلف الغربي نفسه مستوى التباين بين دوله والتصريحات والواقع بشأن الـ5% التي كان يفترض نظرياً الوصول إليها في 2032، والآن إلى 2035. فبينما تتصدر بولندا قائمة الحلف بتخصيص 4.7% من الناتج الإجمالي المحلي، تليها إستونيا وليتوانيا بنحو 3.41 و3.39% على التوالي، فإن واشنطن نفسها التي تُنظّر للزيادة لا تزال عند عتبة 3.19%.
ومن الواضح أن كلما كانت الدول أقرب إلى الجار الروسي، فإنها تبدي استعداداً وقابلية أكبر لتخصيص أموال دفاعية. ويشمل ذلك العضوين الجديدين في "الأطلسي" فنلندا والسويد. في المتوسط لا تزال أغلبية أطلسيي أوروبا تحوم حول نسبة الـ2%، بينما تبقى إسبانيا على سبيل المثال تتذيل القائمة بتخصيص نحو 1.24% من ناتجها الإجمالي المحلي، وتسبقها بلجيكا (البلد المقر للأطلسي) بنحو 1.29%.
وشدد رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز، الخميس والأحد الماضيين، على أن بلاده ليست قادرة في السنوات القادمة على الوصول إلى هدف 5%، مؤكداً أنها "نسبة غير متناسبة وغير ضرورية". في المقابل، أكد أمين عام حلف شمال الأطلسي مارك روته، قبيل القمة في لاهاي، أهمية اتفاق الحلف على الوصول إلى النسبة المطلوبة حتى 2035، مشدداً على أن "دول الناتو عليها اتخاذ قرارات جريئة لزيادة الاستثمارات في الدفاع، بما في ذلك هدف إنفاق 5% من الناتج المحلي الإجمالي عليه". وتشير الأرقام إلى تجربة سيئة في صفوف الحلف مع الطموحات.
ومنذ تبني قمة حلف شمال الأطلسي في وايلز عام 2014 هدف تخصيص 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، لا تزال أغلبية دول الأطلسي تكابد لتخصيص المزيد من الأموال، إذ مع أن الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/ شباط 2022 شكل حافزاً لدى البعض لتخصيص المزيد من الموارد على الإنفاق التسلحي، إلا أنه بعد بعد 11 سنة من تبنّي عتبة الـ2% لا يزال كثيرون غير قادرين على مجاراتها.
من ناحيتهم، يصرّ الأميركيون على أن "التهديدات المتزايدة التي نواجهها والوتيرة السريعة لاستعدادات خصومنا لصراع محتمل يجب أن تدفعنا نحو تلك النسبة"، كما صرح ممثل واشنطن لدى حلف شمال الأطلسي، ماثيو ويتاكر، قبيل انطلاق القمة في لاهاي. ويخشى الأوروبيون من عودة ترامب إلى نهجه الذي عبر عنه في 2017، المهدد بالتخلي عن الدول التي تتعرض إلى تهديد إذا لم تساهم برفع تمويل التسلح.
تيارات معارضة سباق التسلح
يأتي ذلك في خضم عودة توتر علاقة حليفي ضفتي الأطلسي مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وخوضه مع دائرته ما يشبه حرباً تجارية ضد الأوروبيين. ويظهر ذلك تناقضاً بين استهداف اقتصاد القارة من ترامب ومحيطه وبالوقت نفسه مطالبة اقتصاداتها تخصيص المزيد من الموازنات الدفاعية، وصولاً إلى الـ5%. إلى جانب ذلك، فإن النقاشات الأوروبية تظهر توجساً بشأن رسوخ تحالف الجانبين في ظل ترامب، إذ إن الأخير، على عكس كثيرين في أوروبا، لا يرى في روسيا تهديداً. في المقابل، ترى بعض الدول الوازنة في الاتحاد الأوروبي، إلى جانب بريطانيا، أن موسكو تشكل تحدياً كبيراً. ومن المفترض أن يوضح البيان الختامي لقمة الأطلسي في لاهاي هذا الالتباس في قراءة الجانبين لمصادر التهديد التي تستدعي كل هذه العسكرة الغربية.
ولا يبدو الاختلاف على مصدر التهديد أوروبياً - أميركياً فحسب، بل في صفوف الأوروبيين أنفسهم، حيث يظهر المزاج الشعبي في بعض الدول معارضة في الشارع والأحزاب لصرف المال على الدفاع. ففي إسبانيا مثلاً تتزايد بوضوح معارضة سباق التسلح، حيث شهدت تظاهرات في السابع من الشهر الحالي بمشاركة يسارية قد تهدد بقاء حكومة سانشيز من أحزاب بوديموس وإزكيردا يونيدا وسومار، احتجاجاً على زيادة الميزانية العسكرية.
وفي إيطاليا، يتوسع الرفض الشعبي من خلال حركة سلام مناهضة بقوة للتسلح، إلى جانب إبداء حزب "ليغا" (الرابطة) رفضاً لقراءة روسيا تهديداً لأوروبا، فيما سيتعين على دول جنوب القارة، مثل اليونان وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال، خفض الإنفاق العام وزيادة الضرائب لتغطية تكاليف سباق التسلح والوصول إلى نسبة 5%، وهو ما يخلق المزيد من التذمر الشعبي. وفي العموم، تذهب حركة "أوقفوا إعادة تسليح أوروبا.. المال للرعاية الاجتماعية لا للحرب" في دول جنوب القارة وغيرها، إلى التشديد على ضرورة الإنفاق على الخدمات الاجتماعية والصحة والتعليم والتحول الأخضر، من بين أمور أخرى، يؤمنون بأن أموال التسليح تفيد فقط مصنعي الأسلحة حول العالم.
وفي قلب التفاوت بين الأوروبيين أنفسهم قدم استطلاع أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، وأجري في 12 دولة ميلاً أكثر نحو رغبة شعبية بالاستقلال الدفاعي عن أميركا، وبدعم أوكرانيا. وأبدى نحو 70% من الدنماركيين تأييدهم لزيادة الإنفاق الدفاعي، و57% يؤيدون إنفاق 5% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، بل يؤيد 56% تطوير رادع نووي أوروبي بديل "مظلة أوروبية"، دون الاعتماد على الولايات المتحدة، وهي أعلى نسبة دعم بين جميع الدول التي شملها الاستطلاع، وربما يلعب التوتر بين الجانبين على قضية رغبة ترامب بالسيطرة على غرينلاند دوراً في هذه المواقف، وفقاً لما نشره التلفزيون الدنماركي اليوم. وبشكل عام، أيّد في المتوسط ما يزيد قليلاً عن 50% من المشاركين في 12 دولة أوروبية زيادة الإنفاق الدفاعي، بينما عارضه 24%.

Related News


