
تشكل لحظة البدء بطهي الطعام تحدياً حقيقياً لدى النساء الفلسطينيات في قطاع غزة جراء الأزمات المُركبة والمتشابكة التي يواجهنها منذ بدء العدوان الإسرائيلي في السابع من أكتوبر 2023، وتضاعف تلك الأزمات يوما بعد الآخر من دون أفق وحل.
ويمثل الارتفاع الكبير في درجات الحرارة خلال فترات النهار التحدي الأشد قسوة أمام النساء اللواتي اضطررن للطهي وصناعة الخبز على نار الحطب، بعد إجبارهن على ترك بيوتهن الآمنة، والنزوح نحو خيام بلاستيكية تتحول خلال النهار إلى كتل ملتهبة. ولا تعتبر نار الحطب النار الأولى التي تكتوي بها الفلسطينيات في غزة، فقد سبقتها نار الحصار المفروض على قطاع غزة منذ تسعة عشر عاما، وتم تتويجه بالعدوان الذي أفقدهن بيوتهن ومناطقهن السكنية وروتينهن اليومي وأمنهن وأمانهن. وعلى الرغم من قساوة حياة النزوح والترحال الإجباري والمتكرر بين مدارس النزوح ومخيمات ومراكز الإيواء، يدفع نفاد غاز الطهي النساء نحو طهي الطعام المحدود أصلا على نار الحطب الملتهبة، الأمر الذي يضاعف من معاناتهن، خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة، داخل الخيام البلاستيكية والتي تشبه الحمامات الزراعية.
وإلى جانب الخوف والخطر الذي يتربص بالفلسطينيين بفعل تواصل الإبادة الجماعية منذ ما يزيد عن عشرين شهرا، تواجه الغزيات كذلك دخان الحطب الكثيف الذي يحاصرهن بشكل يومي كما تحاصرهن الأضرار الصحية الناجمة عن تدمير البنية التحتية، وهي عوامل إضافية للتأثير على صحتهن العامة. ويزيد من تلك الأزمات الانقطاع التام للتيار الكهربائي، وعدم قدرة النساء على استخدام الأدوات المساعدة في الطهي، والتي خسرنها أصلا بفعل التدمير الهائل للبيوت أو النزوح الذي أجبرهن على ترك كل شيء، ما يجعهلن أسيرات العوز والنقص في مواجه نار الحطب والحر والحرب.
نساء غزة ومعاناة الطبخ في خيم بلاستيكية
وتبين الفلسطينية أم خليل حمد (48 عاما) أن الواقع الحالي هو الأشد قسوة منذ بدء الحرب، حيث ضاقت الأوضاع المعيشية في ظل النقص الشديد بمختلف المتطلبات الأساسية، بينما تعيش مع أسرتها داخل مخيم نازحين يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة. وتصف حمد لحظة الطهي داخل الخيمة البلاستيكية الحارة أصلا وفي ظل اشتداد درجات الحرارة ولهيب الشمس بأنه "جحيم حقيقي" بسبب الحرارة التي تحاصرها من كل جانب، على الرغم من المصاعب الكبيرة التي تواجه أسرتها في توفير أصناف الطعام البسيطة بفعل النقص الشديد وارتفاع الأسعار. وتوضح لـ "العربي الجديد" أن الحياة باتت لا تطاق جراء تراكم الأزمات وزيادة قسوتها على كل أفراد الأسرة، سواء على أطفالها المصطفين في طوابير المياه، أو زوجها الذي يجوب الأسواق على أمل توفير طبخة، أو يتابع أخبار الشاحنات والمساعدات لتوفير الطحين.
وعلى الرغم من بدء رحلة معاناة الثلاثينية الفلسطينية سمية أبو سعدة مبكرا مع الطبخ وصناعة الخبز، إلا أنها تستغرق ساعات طويلة لإتمام المهمة، حيث تقوم بعجن الطحين المتوفر، بينما يقوم زوجها بإشعال النار بجانب الخيمة، بما تيسر من حطب وأخشاب وبلاستيك ونايلون. وتبين أبو سعدة لـ "العربي الجديد" أن دخول ساعات الظهيرة وهي تطهو على النار الكاوية يزيد من قسوة العمل، حيث تتحول خيمتها ومحيطها إلى ما يشبه الفرن بينما تحاط بالدخان الكثيف الذي يحجب عنها الرؤية ويصيبها بضيق إضافي، وألم في العيون والصدر وصعوبة في التنفس. وتلفت أبو سعدة إلى أن انعدام البدائل هو الذي يجبرها على تكرار هذه المهمة الشاقة والمؤذية بشكل يومي، خاصة في ظل انقطاع غاز الطهي والكهرباء، وتقول "إشعال النار المتكرر يحول الخيمة إلى لهيب خلال النهار، بينما لا تفارق رائحة الدخان الخيمة والملابس والفراش حتى في ساعات المساء".
وتزيد صعوبة المشهد داخل المدارس المكتظة بآلاف النازحين، وتقول الفلسطينية أسمهان الفار إن رائحة الدخان المترافقة مع ارتفاع درجات الحرارة لا تفارقها حتى وإن لم تشعل النار، حيث تقوم جاراتها بصناعة الخبز والطعام على النار منذ بداية النهار. وتشير الفار لـ "العربي الجديد" إلى أن الصعوبة لا تكمن في توفير الطعام فقط، وإنما في طهيه، حيث يجمع زوجها الأخشاب والكارتون، أو يشتري ما تيسر بأسعار مرتفعة، لتبدأ رحلة أكثر صعوبة تتمثل في إشعال النار حتى انضاج الطعام.
وتشعر الفار بأن النار والدخان الكثيف والحرارة المرتفعة والمعاناة المتزايدة باتت جزءا لا يتجزأ من حياة النزوح القاسية أصلا خلال الحرب، والتي تنعدم فيها مختلف وسائل الأمان والراحة والحماية، كما تنعدم فيها أدنى درجات الرعاية الصحية اللازمة لمختلف أفراد الأسرة. وتلفت إلى أن التحديات التي تواجهها باتت تعرض أسرتها لخطر حقيقي في ظل إنعدام الغذاء الصحي والهواء النقي، وتكدس النفايات وبرك الصرف الصحي، مضيفة "إلى جانب الإرهاق الشديد، أشعر بالقلق الدائم على صحة أطفالي وأسرتي".
وتفاقم الأزمات المتعددة والمعقدة التي تواجهها النساء في غزة، والتي تتضاعف حدتها بشكل مستمر من حالتهن النفسية، في ظل فقدانهن تفاصيل حياتهن الطبيعية بكل ما فيها من وسائل راحة، إلى جانب اضطرارهن للطهي في الشارع، الأمر الذي يسلبهن أدنى درجات الخصوصية والأمان.

Related News

